بين ليل و فجر – عبدالله البردوني
في هجعة اللّيل المخيف الشاتي … و اجوذ يحلم بالصباح الآتي
و الريح كالمحموم تهذي و الدجى … في الأفق أشباح من الإنصات
و الشهب أحلام معلّقة على … أهداب تمثال من الظلمات
و الطيف يخبط في السكينة مثلما … تتخبّط الأوهام في الشبهات
والظلمة الخرسا تلعثم بالرؤى … كتلعثم المخنوق بالكلمات
في ذلك اللّيل المخيف مضى فتى … قلق الثياب مروّع الخطوات
يمشي و ينظر خلفه و أمامه … نظر الجبان إلى المغير العاتي
و يرى الحتوف إذا تلفّت أو رنا … و يحسّ أصداء بلا أصوات
و يعود بسأل نفسه ما خيفتي ؟ … ماذا أحسّ ؟ و أين أين ثباتي ؟
ماذا يخوّفني أنا رجل السرى ؟ … و أنا رفيق اللّيل و الفلوات
هل ليلتي غير اللّيالي ؟ أم أنا … غيري … أكاد الآن أنكر ذاتي
أين الصباح و أين منّي قريتي ؟ … و الرعب قدّماي و في لفتاتي
و هنا تراءت للمروّع عصبة … كالذعر شيطانيّة اللّمحات
شعث كأهل إلاّ أنّ في … نظراتهم همجيّة الشهوات
و تقلّبت مقل العصابة في الفتى … و كأنّها تشويه بالنظرات
و تخيّلت ” كيس النقود ” فأبرقت … رغباتها في الأعين الشرهات
و تململت فيها الشراسة مثلما … يتململ الزلزال في الهضاب
و التاع فيها الشرّ فاهالت على … ذاك الفتى بالضرب و الطّعنات
فاستلّ خنجره و كسّر وحده … و حشيّة الوثبات بالوثبات
و تلفّتت تلك العصابة حولها … فرأت بعين الوهم ظلّ سراه
و هناك لاذت بالفرار و أدبرت … ملعونه الروحات و الغدوات
و عدت يصادم بعضها بعضا كما … تتصادم الآلات بالآلات
و جثا الفتى بين الجراح كمدنف … يستنجد العوّاد بالزفرات
و تلكأت عند التوجّع روحه … بين الممات و بين نصف حياة
وامتدّ في حضن الطريق وداؤه … حيّ وصفرته من الأموات
و تداعت الأوجاع فيه و التظت … فيه الجراح الحمر كالجمرات
و إذا تهيّأ للنهوض تثاءبت … فيه الجراح تثاؤب الحيّات
و على يمين الدرب كوخ تلتقي … في صدره النكبات بالنكبات
بين القصور و بينه ميل و ما … أدنى المكان و أبعد الرحمات
يشكو إلى جيرانه فيصمّهم … عنه ضجيج القصف و اللّذّات
كوخ إذا خطرت به ريح الدجى … أومى إلى السكان بالرعشات
” سنوات يوسف ” عمره وجداره … أبدا تنوء بأعجف السنوات
فيه العجوز و بنتها و غلامها … يتذكّرون موارد الأقوات
فالحقل جدب ظاميء و سماؤه … صحو تلوح كصفحة المرآة
و الأغنياء ، و هل ترقّ قلوبهم ؟ … لا ، إنّها أقسى من الصخرات
و تغلغلوا في الصمت فانتبهوا على … شبح ينادي الصمت بالأنّات
فإذا فتى قلق الملامح يختفي … تحت الجراح الحمر و الخفقات
فمشى ثلاثتهم إليه وانثنوا … بالضّيف بين الدمع و الآهات
وروى لهم خبر العصابة أنّها … سدّت عليه الدرب بالهجمات
و تهيّجت فيه الجراح فصدّها … و تستّرت باللّيل كالحشرات
فدنت فتاة الكوخ تمسح وجهه … و تبلسم الأجراح بالدعوات
و تبلّ من دمه يديها إنّها … تشمّ فيه أعبق النفحات
و ترى به ما ليس تدري هل ترة … سرّ القضا ؟ أم آية الآيات
فإذا الجراح تنام فيه و يشتفي … و يردّ عمرا كان وشك فوات
وإزاءه ابنت الجميلة كلّها … روح سماويّ و طهر صلاة
يتجاوب الإغراء في كلماتها … كتجاوب الأوتار بالنغمات
أغفى الجريح على السكون و أغمضت … أجفان من حوليه كفّ سبات
و الكوخ في حرق الأسى مترقّب … بشرى ترفّ عليه كالزهرات
و اللّيل تمثال سجين يرتجي … فكّ القيود على يد النحّات
فبدا احمرار في الظلام كأنّه … لعنات حقد في وجوه طغاة
و تسلّل السحر البليل على الربى … كالحلم بين الصحو و الغفوات
يندى و ينثر في البقاع أريجه … و يرشّ درب الفجر بالنّسمات
وصيت على الجبل الشموخ أشعّة … مسحورة كطفولة القبلات
فكأنّما الجبل المعمّم بالسنى … ملك يهزّ الفجر كالرايات
رفع الجبين إلى العلا فتقبّلت … في رأسه الأضواء كالموجات
و تسلّق الأفق البعيد شموخه … فترى عمامته من الهالات
و تلألأت فوق السفوح مباسم … ورديّة الأنفاس و البسمات
وانصبّ تيّار الشروق كأنّه … شعل النبوّة في أكفّ هداه
و غزا الدروب فأجفلت قطّاعها … ووجوههم تحمرّ بالصفعات
و تصايحت تلك العصابة ما أرى ؟ … هذي الجهات المشرقات عداتي
أين المفرّ ؟ و أين أطلب مهربا ؟ … و النور يسطع من جميع جهاتي
كيف القرار ؟ و ليس لي كهف و لا … درب فيا لي يا لسوء مماتي
و أفاق أهل الكوخ حين ثقوبه … تومي إلى الأبصار بالومضات
فدنا ثلاثتهم يرون جريحهم … فإذا الفتى في سكرة الفرحات
نفض النعاس وشدّ فيه جراحه … و استقبل الدنيا بعزم أباه
ورمى إلى كفّ الغلام و أمّه … بعض النقود و دعوة البركات
و صبا إلى كفّ الفتاة و قال : يا … ” نجوى ” خذي نخب الزفاف و هاتي
و طوى الجراح وهبّ يقتاد السنى … و يبشر الأكواخ بالخيرات
و يقود تاريخا و ينبت خطوة … فجرا ينير مسالك القادات
فضح الصباح المجرمين فأصبحوا … أخبار جرم في فم اللّعنات
و تعالت الأكواخ تنظر أهلها … يضعون ” غار النصر ” في الهامات “
لمس الربيع قلوبهم و حقولهم … فاخضوضرت بالبشر و الثمرات
و الجوّ يلقي النور في الدنيا : كما … تلقي السيول مناكب الربوات
و الزهر في وهن الشباب مفتّح … فوق الغصون كأعين الفتيات
و الأفق يورق بالأشعّة و الندى … و الأرض تمرح في حليّ نبات
و هنا انتهى دور الجرائم و ابتدى … دور وريف الظلّ كالجنّات
فتجمّع الإخوان بعد تفرّق … وانضمّ شمل الأهل بعد شتات
صرعت أباطيل الدجنّة يقظة … أقوى من الإرهاب و القوّات
و الدجل يذهب كالجفاء و لم تدم … إلاّ الحقيقة فوق كلّ عتاة
إنّ الحياة مآتم تفضي إلى … عرس و أفراح إلى حسرات
لكنّها بخريفها و شتائها … و بصيفها .. حكم ودرس عظات
فاختر لسير العمر أيّة غاية … إنّ الحقيقة غاية الغايات .