بغداد على الغرق – محمد مهدي الجواهري

بدت خَوداً لها الأغصان شَعرُ … ودجلةُ ريقُها والسَفْحُ ثَغْرُ

على ” بغداد ” ما بَقِيتْ سَلامٌ … يَضُوعُ كما ذَكَا للوَردِ نَشْر

سمتْ تَزْهو على السَفحَينِ منها … قصورٌ ملؤها زَهْوٌ وكِبْر

يُظلَّلُ دجلةً منها جَناحٌ … كما بَاهى بقادِمتَيه نَسْر

نزلتُ فما رأيتُ أبرَّ منها … وضيفُ كريمةٍ برّ يُبَر

قرتْني الريحُ ، لم يَفْسُد ، مَهَبٌّ … له والماءُ ، لم يسْدُدْ ، مَمَرُّ

سكِرتُ وما سُقِيتُ بغيرِ ماءٍ … ودجلةُ ماؤُها عَسَلٌ وخَمر

كريمةُ سادةٍ عَرَّقْنَ فيها … عروقٌ من بني ” عدنان ” نُضْر

كفى ” العباسَ ” ما أبقَتْ بنوه … فما تَربو على ” بغدادَ” مِصْر

مَضَوا غُرَّ الوجوهِ وخلَّدتْهم … نِقاباتٌ من الآثار غُرّ

فمن يكُ ذكرهُ حَسَناً جميلاً … فحسْبُ القَوم في بغدادَ ذِكْر

فيا بغدادُ لا ينفكُّ سِرٌ … لحُسْنِكِ ينجلي فيدِقُّ سِر

أكنت و ” بابلاً ” بلداً سواء … فللملكَينِ باقٍ فيك سحر

سقى الجْسرَ المَطيرَ من الغوادي … فَملْقى اللهو واللذاتِ جسر

هو البرجُ الذي كادَتْ عليه … نجومُ الأفقِ ساجدةٌ تَخِرّ

رأيتُ بأفقه شمسْاً وبَدراً … كأحسنِ ما تُرَى شَمسٌ وبَدر

نهاراً كلُّه أُصُلٌ لِذاذٌ … وليلاً كلهُّ سحرٌ وفجر

وقفتُ عليه وِقفةَ مستطيرٍ … من الأحزانِ ملْ حَشاه ذُعر

وللأمواج من حَنَقٍ نَشيشٌ … كما يَغلي على النيرانِ قِدر

ودجلةُ كالسجينِ بغَى فراراً … وأزْبَدَ حيثُ أعوزَه المَفَرُّ

وذاك الثابتُ الأركانِ أمسى … عليها ريشةً لا تستَقِرُّ

فما أدري غَداةَ نَزَا عليه … من الأمواج مُغتَلِمٌ يؤر

أتحتَ الماءِ غاصوا حين جازوا … عليه أم فُوَيقَ الماءِ مرّوا

أحقاً أن ” أمَّ الخير ” منها … بعاصمة ” الرشيد ” أحاطَ شرّ

وبات الماءُ منها قِيدَ شِبرٍ … لقد أسدَى لها الأحسانَ شِبر

ودجلةُ حُرَّةٌ ضيمَت فجاشَت … ويأبى الضيمَ والاذلالَ حرّ

أضاعُوا ماءها هدراً وأخنَى … على مُستودَعِ البَرّكات فَقْر

فان تَكُ دجلةٌ هَدَأت وقرَّت … فللغضبان ” شِقْشِقَةٌ ” تَقَر

وإن تُبْتُمْ فذالكمُ وإلا … تُصِرُّ على البلية إن تُصرّوا

رأوا حسنَ العراق فأعجبتهمْ … اباطحُ من ، ربيع فيه ، خُضْر

وقد حَنُّوا اليه كما تلظى … فطيمٌ حول مرضعة تدُر

فيا وطناً جَفَوْهُ وهو راضٍ … وعقَّته بنوه وهو بَرّ

برغمي أن تروقَ لهم فتحلوا … مواردُهم وعيشي فيك مرّ

نصيبي منك دمعٌ ليس يرقى … على البلوى وجنبٌ لا يَقِر

رضيً بالحالتين ضنىً وبؤسٌ … فضُر من بلادي لا يضر

ولستُ ببائعٍ أرضي بأرضٍ … وإن لم ألقَ فيها ما يسر

ومن لم يرضَ موطنه مقراً … من الدنيا فليس له مقر

تتابعت الخطوبُ على بلادي … فواحدةٌ لواحدةٍ تُجَر

وقد مرت نحوسٌ واستمرت … وذلُ القوم نحسٌ مستمر

فلو قالوا تمنَّ لقلتُ يوماً … يكرُّ وما به خطبٌ يكر

إليك الشعرَ يا بغدادُ عِقداً … تناسق لؤلؤٌ فيه ودُرّ

بيانٌ جاش فيكِ فجاء عفواً … وحسنٌ رق منك فرقّ شعر

جرى بالوَفق من قلبي لساني … وأظهرت القوافي ما أُسِر