الفرات الطاغي – محمد مهدي الجواهري

طغَى فضوعف منه الحسنُ والخَطَرُ … وفاض فالأرضُ والأشجارُ تنغمِرُ

وراعت الطائرَ الظمآنَ هيبتُه … فمرَّ وهو جبانٌ فوقَه حذِر

كأنما هو في آذيِّه جَبَلٌ … على الضفاف مُطلٌّ وهي تنحدر

رَبُّ المزارعِ والملاّحِ راعَهما … بالحول منه عظيمُ البطش مقتدِر

باتت على ضَفَّتيه الليلَ تحرُسُه … غُلبُ الرجال لما يأتيه تنتظر

راحو أُسارى مطأطين الرؤوسَ له … وراح طوعَ يديه النفعُ والضرر

مَشَى على رِسْلِه لا الخوفُ يَردَعُه … ولا عن الفِعلة النكراءِ يعتذِر

ومر يَهزَأ من أيد تقاومه … تسعَى لتحكيم أسداد وتبتدِر

فكلُّ ما بلغَ الانسانُ من عَنَتٍ … قُوى الطبيعةِ تأتيه فيندحِر

وما ” الفرات ُ ” بمسطاعٍ فمختَضَدٍ … ولا بمستعبَد بالعُنفِ يُقتَسر

كم من معاركَ شنَّ الفنُ غارتَها … على ” الفرات ” ولكنْ كانَ ينتصر

نَموذَجٌ ” للأنانيينَ ” ليس له … ولا عليه ، أفازَ الناسُ أم خسِروا

في حينَ باتَ جميعُ الناس يُرهبُهم … في كل ثانيةٍ عن سَيره خَبَر

ملءُ القلوب خشوعٌ من مهابتِه … وملءُ أعينهم من خوفِه سَهر

وراح شُغْل النوادي عن فظاظته … يُجرى الحديثَ وفيه ينقضي السهر

ورُوِّعَ السمعُ حتى بات من ذَهَل … يود سَمعُ الفتى لو أنه بَصَر

واستُبطِئت عن نَثَا أخباره بُرُدٌ … واستُنهِضَ البرقُ يُستقصي به الخَبَر

هو ” الفرات ” وكم في أمره عَجَبٌ … في حالتيهِ وكم في آيِه عِبَر

بينا هو البحرُ لا تُسطاع غضبتُه … إذا استشاطَ فلا يُبقي ولا يَذرَ

إذا به واهنُ المَجرى يعارِضُه … عودٌ ويمنعه عن سيره حَجَر

طَمَى فردَّ شبابَ الأرض قاحلةً … به وعادت إلى رَيعانها الغُدُر

وأشرفت بقعةٌ أُخرى ألَّم بها … على الممات فأمسَت وهي تُحتَضر

وودَّعَ الزارعون الزرعَ وانصرفوا … للماء ما زَرَعوا منه وما بَذَروا

من كان بالامس يعلو وجهَهُ فرحٌ … بما يُرجِّيه غطَّ وجهَه كَدَر

وقطَّبت بعد تهليل أسرَّتُه … وبان فوق خُطاه الضعفُ والخَوَر

صُبَّت عليها بلاياه ونقمتُه … أنا ” القصورُ ” فلا خوفٌ ولا حذَر

طافت عليه حنايا الكوخ واقتُلِعَتْ … مضارِبُ البيت منه فهي تنتثر

غط الهديرُ فغضَّت منه ثاغيةٌ … ورددت ثغيّها من خلفِها أُخر

واستحكمت ضجةٌ من كل ناحية … جاءت إليها بموتٍ عاجلٍ نُذُر

ورُبَّ طالبةٍ بالماء راضَعَها … ورب عاريةٍ بالماء تأتزر

وصفحةٍ من بديع الشعر منظرهُ … طامي العُباب مُطِلاً فوقَه القَمَر

وقد بدت خضرةُ الأشجار لامعةً … مغمورةً بسناه فهي تزدهِر

ومن على ضَفَّتيه انصاعَ منغمرا … في الماء نصفٌ فوقَه الشَجر

باتت على خَطَرٍ ناسٌ بثورته … وراح يؤنُسنا في المنظر الخَطَر

وهكذا الناسُ يُغريهم تخيُّلُهم … حتى يَجيئوا الى البَلْوى فيختبروا

كما أتى الحربَ فنانٌ ليرسُمَها … في حينَ آخرُ يُصلى جسمَه الشرَر

روحٌ جرت لم يُردْ نَفعا بها بدنٌ … وعسجدٌ سال إلا أنه هَدَر

هذا المشيِّدُ للعُمران ريِّقَه … في الرافدين به العُمرانُ يندثر

كان العراقُ سواداً من مزارعه … على بنيهِ يفيءُ الظلُ والثَمَر

تَفيض خيرا على الأقطار غلَّتُه … موفورةً لسنين الجوع تُدَّخر

ووزّع الماءَ عدلاً في مسايله … فكلُّ ناحيةٍ يجري بها نَهَر

باسم ” الفرات ” وتنظيمٍ له خُلقتْ … دوائرٌ لم يَبِنْ من سعيها أثَر

أغفَت طويلاً ولما هاجَ هائجُه … جاءته بعد فواتِ الوقتِ تبتدِر

وهاهو الماءُ موتٌ في زيادته … وفي النقيصةِ مسروقٌ فمُحتَكَر