الصَبر الجَميل – محمد مهدي الجواهري

ذممَتُ اصطبارَ العاجزينَ وراقني … على الضُرِّ صبرُ الواثبِ المتطلِّعِ

له ثِقَةٌ بالنفسِ أنْ ستقودُه … لحالٍ يرجِّي خيرَها أو لمصرع

وما الصبرُ بالأمرِ اليسيرِ احتمالُه … وإن راحَ ملصوقاً به كلُّ مُدَّعي

ولا هو بالشئ المشرِّفِ أهلَه … إذا لم تكنْ عُقباه غيرَ التوجّع

ولكنَّه صبرُ الأسودِ على الطَّوى … تغطّي عليه وثبةُ المتجمِّع

مِحَكُّ طباعٍ آبياتٍ وطُوَّعٍ … وبَلوى نفوسٍ طامحاتٍ ووُضَّع

يُعنَّى به حُرٌّ لإحقاقِ جرئٍ غايةٍ … ويَخرُجُ عنه آخرٌ للتضرُّع

فإنْ كنتَ ذا قلبٍ جرئٍ طبيعةً … على نكبات الدهر لا بالتطبّع

فبورِكَ نسْجُ الصَّبرِ درعاً مضاعفاً … وبوركْتَ من ذي مِرَّةٍ متدرِّع

وُلد الالمعيُ فالنجمُ واجمْ … باهتٌ من سُطوع هذا المُزاحمْ

أتُرى عالمَ السموات ينحطُّ … جلالاً عن واطئات العوالم

أم تظُن السماء في مهرجانٍ … لقريب من الملائك قادم

أم تُرى جاءت الشياطينُ تختصُّ … بروح مشكك متشائم

كيفما شاء فليكنْ ، إن فكراً … عبقرياً على المَجرة حائم

قال نجمٌ لآخرٍ : ليت أني … لثرى الكوفةِ المعطر لاثم

ولبيتٍ أناره عبقرىٌ … لم ينوَّر بمثله الأُفقُ ، خادم

ليت أني بريقُ عينيه أو أني … لنور القلب المشعِ مقاسم

أيها ” الكوكبُ الجديدُ ” تخيرْني … إذا ارتحت ، بسمةً في المباسم

ولقد قال ماردٌ يتلظى … في جحيمٍ على البرية ناقم :

أزعجتْ جوَّنا روائحُ من خبثٍ … وضَعفٍ على الثرى متراكم

لا أرى رسم بُرثُنٍ بين أظلافٍ … عجافٍ كثيرةٍ ومناسم

أفنسلُ المَلاك هذا وما كان … ملاك موكلاً بالجَرائم؟

أفهذا نسلُ الشياطينِ والشيطانُ … لم يَرْبُ في دُموع المآتم

إنَّ فيه أمراً عجيباً مخيفاً … ضعفَ مستَغشَمٍ وقسوةَ غاشم

لو ملكنا هذي اللُّحومَ لكانت … للذُباب المنحطِّ نِعمَ الولائم

وأُرانا نحتاج خَلقاً كهذا … عاصفاً ثائراً قويَّ الشكائم

فَلْنرجّف أعصابهَ وهو يقظانُ … ونزعجْ أحلامه وهو نائم

ولْنُوِّجْههُ قبْلةً لا يلقّى … عندها غيرَ حاقدٍ أو مخاصم

ولْنُثرْهُ ليملأ الكونَ عُنفاً … نفسٌ يُلهبُ المشاعر جاحم

أيها الماردُ العظيمُ تقبّلْ … ضَرَماً تستشيطُ منه الضرائم

وسأهديكَ ان تقبلتَ منى … مِعولاً من لظىً.. فإنك هادم

وسلامٌ عليك يوم تُناوِي … لؤمَ أطماعِهمْ ويومَ تهاجم

بُشِّر ألمنجبُ ” الحسين ” بمولودٍ … عليه من الْخُلود علائم

سابح الذهن .. حالم بلشقاتِ … شريد العينين بين الغمائم

وانبرت عبقَرٌ تزجِّي من الجنّ … وفوداً مزهوةً بالمواسم

واتى الكونَ ” ضيفهُ ” بدويَّ الرعد … يلقاه لا بسجع الحمائِم

عالماً أنَّ صوت خَلْقٍ ضعفٍ … غيرُ كفءٍ لمثل هذي الغلاصِم

فارشاً دربَهُ بشوك من الفقرِ … وجمرٍ من ضِغنةٍ وسخائِم

قائلاً :هذه حدودي تخطا … ها عظامٌ إلى أمورٍ عظائِم

ربما يفُرشَ الطريقُ بنثر الزَهر … لكن للغانيات النَواعم

قُبَل الأمهات أجدرُ ما كانَتْ … بوجهٍ مُلوَّحٍ للسمائِم

يا صليباً عوداً تحدَّته أنيابُ … الرزايا فما استلانَ بعاجِم

ورأي المجدَ خيرَ ما كان مجداً … حينَ يُستَلُّ من شُدوق الأراقِم

شامخٌ أنتَ والحزازاتُ تنهارُو … باقٍ وتضمحلُّ الشتائِم

وحياةُ الابطالِ قد يُعْجِز الشاعرَ … تفسيُرها كحَلِّ الطَلاسم

ربَّما استضعَفَ القويُّ سَديدَ … الرأي يأتيه من ضعيفٍ مُسالِم

ايُّ نَفْس هذي التي لا تعُدُّ العمرَ … غُنْماً إلا بظِلِّ المَغارِم

تَطرَحُ الخفضَ تحت خُفِّ بَعيرٍ … وتَرى العيشَ ناعماً غيرَ ناعِم

وتَلََذُّ الهجيرَ تحسَب أنَّ الذلَّ … يجري من حيثُ تَجري النسائِم

وترى العزَ والرجولةَ وصفينِ … غريبَينِ عن مُقيمٍ ملازِم

كلُّ ما تشتهيهِ أن تَصحب الصارمَ … عَضْباً وأن تَخُبَّ الرواسِم

هكذا النابغونَ في العُدْمِ لم تُرضِعْهُمُ … الغُنْجَ عاطفاتٌ روائِم

ونبوغُ الرجال أرفعُ من أنْ … يحتويه قَصْرٌ رفيعُ الدَعائِم

إنما يَبعَث النبيَّ إلى العالَمِ … بَيتٌ مُهَفْهفُ النورِ قاتِم

” كندةٌ ” أينَ ؟ لم تُبقِّ يَد الدهرِ … عليها ولا تَدُلُّ المَعالم ؟

لم تخلف كفُّ الليالي من الكوفَةِ … إلا مُحرَّقاتِ الركائِم

أحصيد دور الثقافة في الشرقِ … ألا يستينُ منهُنَّ قائِم؟

أين بيتُ الجبار باق على سمعِ … الليالي مما يَقول زمازِم؟

” جُعف ” منسيَّةٌ افاض عليها الشعرُ … ما كانَ في ” أُمَيٍّ ” و ” هاشم “

لست أدري ” اكوفة ” المتنبي … أنجبته أم أنجبته العواصِم

غير ان النُبوغَ يَذوي وينمو … بين جوٍّ نابٍ .. وجوٍّ ملائِم

” حَلبٌ ” فتَّقَت أضاميمَ ذِهنٍ … كان من قبلُ ” وردةً ” في كمائِم

أيُّ بحر من البيان بامواجِ … المعاني فياضةً ، متلاطِم

كَذَبَ المدَّعونَ معنىً كريماً … في قوافٍ مُهلهلاتٍ ألائِم

وَهبِ اللفظَ سُلَّماً فمتى استحسنتِ … العينُ واهباتِ السلالم؟

حجةُ العاجزين عن منطق الافذاذِ … يُخفون عجزَهم بالمزاعِم

روعةُ الحرب قد خلَعتَ عليها … روعةً من نسيجك المتلاحِم

شعَّ بين السطور ومضُ سِنانٍ … ثم غَطَّت عليه لَمعةُ صارِم

ما “ابن حمدان ” إذ يقودُ من الموتِ … جيوشاً تُزجَى لموتٍ مُداهِم

بالغ ما بلَغْتَ في وصفك الجيشَيْن … اذ يقدحانِ زندَ الملاحِم

إذ يضمُّ القلبُ الجناحَ فترتدّ … الخوافي مهيضةً والقوادِم

وفرِاخ الطُيور في قُلَل الاجيال … تَهدي لها الظنونَ الرواجِم

لك عند الجُرْدِ الاصائلِ دَيْنٌ … مستَحقُّ الأداءِ في النَسل لازِم

كم أغرٍّ ” مُحَجَّلٍ ” ودَّ لو يُهديكَ … ما في جَبينه والمعاصِم

واجتلينا شعرَ الطبيعة في شعرك … تَفْتَّر عن ثُغورٍ بواسِم

شِعْبُ ” بَوّان ” لا تخيُّلُ فنّانٍ … غَنٌّ عنه ولا ذِهنُ راسِم

متعهُ الشاعرِ المفكرِ يقظانَ … ومَسْرى خيالِه وهو حالِم

لا تعفَّيْتَ من ” مَمَرٍّ ” كريمٍ … خلَّدَتْكَ المُحسَّناتُ الكرائِم

ايه خصمَ الملوك حتى يُقيموا … لك أمثولةَ النظيرِ المُزاحِم

عَضُدُ الدولة استشارَك بالإعزازِ … واللُطف يا عدوَّ الأعاجِم

رُحتَ عنه وأنت خَوفَ اشتياقٍ … لسِواه على فُؤادِكَ خاتِم

إن ذلك الوَداعَ كان نذيراً … بحِمامٍ دلَّتْ عليه عَلائِم

فلتُحيِّ الاجيالُ مغناكَ بالريحانِ … وَلْتَلْتَثِمْهُ وهي جَواثِم

رَمْز قَوميةٍ بَنَتهُ البَوادي … مُشمخرَّ البِناء ثَبتَ الدعائم

بدويَّ المُناحِ أرهفَ منه الحسَّ … جوٌّ مُشَعْشَعٌ غيرُ غائِم

لدِمشقٍ يَدٌ على الشِعرِ بيضاءُ … بما زيَّنَتْ له من مَواسِم

وسلامٌ على النُبوغ ففيما … تَسْقُط الذكريات وهو يُقاوِم