مسافرة بلا مهمة – عبدالله البردوني
يا رؤى الليل … يا عيون الظهيرة … هل رأيتينّ موطني والعشيرة ؟
هل رأيتينّ يحصبا أو عسيرا ؟ … كان عندي هناك أهل وجيره
ودوال تشقرّ فيها اللّيالي … ويمدّ الضّحى عليها سريره
ورواب عيونهنّ شموس … وعليهنّ كلّ نجم ضفيره
وسفوح تهمي ثغاه وحبا … وحقول تروي نبوغ الحظيره
وبيوت ينسى الضيوف لديها … قلق الدار … وانتظار المديره
يا رؤى يا نجوم .. أين بلادي ؟ … لي بلاد كانت بشبه الجزيره
أخيّروا أنها تجلّت عروسا … وامتطت هدهدا ، وطارت أسيره
وإلى أين يا نجوم ..؟ فتومي … ما عرفنا ـ يا أخت .. بدء المسيره
من أنا يا مدى ..؟ وأنكر صوتي … ويعبّ السّفار وجه السفيره
من أشاروا علّي كانوا غباء … ليتهم موضعي وكنت المشيره
كيف أختار .. كيف ؟ ليس أمامي … غير درب ، فليس في الأمر خيره
رحلت مثلما يحثّ سراه … موكب الريح في الليالي المطيره
وارتدى (الفار) ناهديها وأنست … هجرة النحنى خطاها الأخيره
وروّزا : أشأمت على غير قصد … ثمّ أمست على (دمشق) أميره
قلعتني ـ يا شامـ ريح .. وريح … زرعتني هنا .. كروما عصيره
وبرعمي نزلت غير مكاني … مثلما تلتقي العظام النّثيره
وبلا موسم تنامت وحيّت … بالرياحين والكؤوس النضيره
(وسقت من أتى البريص إليها … بردى .. خمرة ، ونعمى وفيره)
وعلت جبهة (الحورنق) تاجا … يا (سنمّار) أيّ مثيره ؟
وهمت كالنّجوم سعدا ونحسا … وعطايا وحشيه ومجيره
(أنت كاللّيل مدركي من أمامي … وورائي .. كل النواحي ضريرة)
وحكوا : أنها ثياب سواها … جمّلتها … وأنها مستعيره
فرأوّها وصيفة عند (روما) … ورأوها في باب (كسرى) خفيره
وبعيرا لبنت (باذان) حينا … وأوانا … تحت (النجاشي) بعيره
عندما أحرقت (بنجران) غزوا … كان ينوي .. صارت رماد الجزيره
أطفأت بالثقاب مدّ جحيم … أتراها ملومة أم عذيره ..؟
فتهاوت حصّى وطارت عيونا … هربت من وجوهها مستجيره
وإلى أين ثانيا يا منافي … والإجابات كالسؤال مريره؟
نزلت (يثربا) هشيما فكانت … بالعناقيد والرفيف بشيره
فتناغى النخيل من أين جاءت … هذه الكرمة العجوز النكيره ؟
جئت يا عمّ من جذوري أرجيّ … تربة من رماد حزني قريره
وتجلّت في ذلك القفر دورا … وقطوفا تومي بأيد منيره
ونخيلا من السّيوف المواضي … وسيوفا من القوافي الجهيره
وارتمت في (حرى) طريقا وكهفا … ثمّ أضحت منذورة ونذيره
ومصلّى ، وخندقا ، وحصونا … ونبيا ، وسورة مستطيره
وليال مضت وجاءت ليال … وانقضت عسرة وجاءت عسيره
فانتضت في يد (السقيفة) (سعدا) … أكبر القوم … للأمور الكبيره
يا قريش اذكري نمتنا جميعا … صحبة سمحة وقربى أثيره
فلك السبق والجبين المحلّى … وأنا الجبهة الشموخ النصيره
أنت أمّارة … أنا ـ ثم قالوا : … سكتت قبل أن تقول ـ وزيره
دهشة البدء ضيّعت من خطاها … أولّ الدرب وهي حيرى حسيره
وجهها غاص في غبار المرايا … واسمها ضاع في الأماسي الغفيره
أين ((سعد)) قالوا : رماه عشاء … مارد من (( قبا)) يسمى ((بجيره))
وحكوا : أنها استعارت وجوها … خبأت تحتها الوجوه الكسيره
وإلى أين ثالثا ..؟ هل لسيري … وانثنائي مهمة بي جديره ؟
أصبح الصارم اليماني بكفّي … ((مرودا)) في يدي فتاة غريره
وطغت ردّة فعادت نبيا … ونخيلا من السيوف الشهيره
وإلى أين رابعا ..؟ لقتال … جنّحت خيله وشبّت نفيره
من رآني خضت الفتوحات لكن … عدت منها إحدى السبايا الطريره
وإلى أين خامسا … يا قوافي؟ … هاجر الحبّ والروابي الحضيره
فأتت ثانيا ((دمشق)) غراما … قمريّ الجبين ، باكي السريره
قصر ((أم البنين )) هذا ، عليه … ـ حسيما أخيرت ـ سمات كثيره
جرّبت أعسر الفتوح خيولي … فلأجرب هذي الفتوح اليسيره
لم أجد (( روضة)) ، فأدركت أزهى، … لعبة ، حلوة … ولكن خطيره
وعلى موعد رقت في ثوان … كتّف القصر بالهوى مستنيره
فتن فوق ما يظنّ التمنّي ، … غرفة فوق وصفها بالوثيره
لحظة والتوى السرير ضريحا … خشيا يموت … يطوي زفيره
إيه (( وضاح)) دونك البئر فانزل … قطعة دوان وصفها بالحقيره
ولهت ((ديد مونة)) في علاها … ((وعطيل)) الهوى صريع الحفيره
هكذا أخبروا … لأن بلادي … خنجر الآخرين وهي العقيره
ما الذي جدّ ؟ أعول الثأر حتى … ليس يدري قبيله ودبيره
فارتقى ((هاشم)) و((مروان)) ولى … وهي ملغية الحساب … هجيره
من أنا ..؟ وانجلت لها من بعيد … لوز ((همدان)) كالنجوم الصغيره
ذكرت أم موطنا كان فيها … نسيت بدأه … وتنسى مصيره
فانثنت ((هاديا)) وقالت ترابي … ـ يا كنوز الرشيد ـ أغلى ذخيره
حقبة … والتوت ربى من أفاع … غادرات وهي الضحايا الغديره
توّجت … أسقطت على غيري هدّي … وأنتقت دون رؤية أو بصيره
فانتهت فاطميّة هي (( أروى)) … ظاهرا … خلفه سجل وسيره
وتسمت ((بالقرمطي)) ولكن … أنقضها الممارسات القديره
فنفت وادّعت … كما شاء داع … لبست وجهها … وأخفت ضميره
وأسرّت قدسا وأبدت شعارا … خلفه ـ لو علمت ـ ألف شعيره
واستحرّت خلف ((النجاحي)) وأدمى … في رباها خيوله وحميره
ثمّ صارت ((مهديّة)) ((ورسولا)) … نزلت واديا أضاعت شفيره
فأقامت في كلّ صقع إماما … هيأت نعشه وحاكت حريره
وتساقت دما وشوقا إليه … وهي أظما إلى المياه النّميره
من أتى ..؟ عاصف من الترك طاغ … فلأمزق حلوقه وهديره
إنّه يقذف السّعير المدوّي … فلأردد إلى حشاه سعيره
وأعدّت له القبور إلى أن … دفنت عهده أجدّت نظيره
وتراخى عهد عثير اللّيالي … وارتخت تحت ركبتيه عثيره
وبلا يقظة أفاقت ومدّت … (حزيزا) شعلة إلى (ضبر خيره)
وهناك انطفت وأطفت وقالوا : … خبزت للخلود أشهى فطيره
وحكوا : أنها أرادت … ولكن … جيدها المنحنمى قد اعتاد نيره
وطوت أربعا وعشرا ، مناها … مسرعات لكن خطاها قصيره
ربّما تخدع البروق عيوني … ربّما تحتها غيوث غزيره
أيّ شيء أريد ؟ ما عدت أغفو … أقلق العصر مرقدي وشخيره
هنا أنهت الإمامات ، هبت … من أساها تقود أبهى مسيره
هلّ (أيلول) مولدا وريعا … لم تزل تحمل الفصول عبيره
وقلاعا تثني المغيرين صرعى … وتلالا مدجّجات مغيره
ثم ماذا ؟ أسمت (سعيدا ) (نبيلا) … ودعت (شعلة) (هدى) أو (سميره)
غيّرت شعر جلدها وهي لمّا … تتغير ولم تغير وتيره
فرّة واجتلت قناعا يحلّي … جبهات إلى القفى مستديره
أصبحت أطوع المطايا ولكن … بالتواء الدروب ليست خبيره
فلأسافر كعادتي ، كلّ قفر … ذبت في نبته سكنت صفيره
ورمادي خلفي يعدّ رجوعي … يعجن الريح باحثا عن خميره
رحل النبع من جذوري فهيّا … يا هشيم الغصون نتبع خريره
وإلى أين ـ يا منافي ـ أخيرا …؟ … وتشظّت في كلّ منفى أجيره
هكذا ما جرى لأنّ بلادي … ثروة الآخرين ، وهي الفقيره