شاغور حمانا – محمد مهدي الجواهري

عاودتُ بعد تغيُّبٍ لُبنانا … ونزلتُ رَحْبَ فِنائه جَذلانا

ودَرَجتُ اقتنصُ الشباب خَسِرتُه … ذا رِبحةٍ ورَبِحته خسرانا

فوجدتُ رَيْعان الجمالِ ولم أسَأ … أني أضعت من الصبا ريعانا

ووجدتُ في مرح الحياة طفولتي … وشبيبتي وكهولتي سِيّانا

ونقضتُ بيني والكوارثِ مَوثِقاً … وأخذت من عَنَتِ الزمان أمانا

وأقَمت من يَومي لأمسيَ حاجزاً … وضَرَبت سَداً بينَنا النِسيانا

وطلَبتُ عونَ قريحتي فوجدتُها … سمحاءَ تبذُل خيرَها مِعوانا

وأثرتُ هاجعةَ القوافي لم تجد … في الراقدين لركضة ميدانا

قام الجفافُ بعذرها واستامَها … خِصبُ الجبال مرونةً ولِيانا

وأريتها ” حَمّانة ” فرأتْ بها … مَلَكاً يمُدُّ الشعرَ لا شيطانا

وأردتُها تَصِف الحياة رقيقةً … وجليلةً وتُجيدها إتقانا

فشكَتْ إلى لُغىً تضيقُ حروفُها … عن أن تُسيغ السجعَ والأوزانا

” شاغورُ حمانا ” ولم يَرَ جنةً … من لم يشاهدْ مرةً ” حمانا “

مرْجٌ أرادتْه الطبيعةُ صورةً … منها على إبداعها عُنوانا

فحبتْه بالمُتَع الروائعِ كلِّها … ورَمَت عليه جمالَها ألوانا

المنتقاةَ من الحياة طبيعةً … والمصطفاة من البلاد مكانا

والخافقاتِ ظلالُها عن سَجسَجٍ … يَشفى الغَليل ويُثلجُ الظمأنا

والغامراتِ عيونُها وديانَها … وجبالَها وبقيعَها الفينانا

والغارقاتِ مروجُها في سُندُسٍ … خُضرٍ تَفوح من الشَذا أردانا

وادٍ تَلَفَّت ناشئاً فاذا به … بين الجبال تكفَّلَته حَنانا

واذا بها بمياهه وغياضِه … جاءَت تحوِّطُ مَرْجه بستانا

انظر إلى الجبل الأصمِّ بزرعِه … متبختراً وبضرعِه رَيّانا

لامستِ بالشك اليقينَ وزعزعَتْ … مرآكِ نفساً تنشُدُ الإيمانا

أمِنَ الجنان وخمرها لكِ صورةٌ … صوِّرَت عنكِ الجنانُ جنانا

عاودتُ ماءَكِ ناهلاً وحسبتُني … عاودتُ بعدَ تعفُّفٍ إدمانا

يا اختَ ” لا مرتين ” ارهفَ جوُك … الإحساسَ منه ولطَّفَ الوجدانا

هذي الينابيعُ الحسانُ تفجَّرتْ … منها ينابيعُ البَيان حِسانا

الخالداتُ خلودَ شمسك طلقةً … والسامياتُ سموَّ هضبِك شانا

والباعثاتُ من العواطف خيرَها … إيناسةً . وأرقَّها أحزانا

وحيٌ تنزَّلَ والندى ورسالةٌ … هَبَطتْ وأضواء النجوم قِرانا

في ساعةٍ أزَليةٍ بهباتِها … شأت الوحاة وبَزَّتِ الأزمانا

يا أيها النهرُ الذي بخريره … وَعَتِ العصورُ نشيدَهُ الرنّانا

يا أيها الجبلُ المَهيبُ بصمته … مترهِّباً يستلهمُ الأكوانا

يا أيها الشجَرُ الذي بحفيفِه … وفَّى الحياة ونورها شُكرانا

ما ضرَّ انك ما مَلَكتَ لسانا … ولأنت أفصحُ مَنطِقاً وبيانا

” شاغور حَمّانا ” أثارَ بلُطفه … قِممَ الجبال وأرقَصَ الوديانا

فرشت له صُمُّ الصفا أذيالها … وتفتحَّت ثَغَراتُها أحضانا

ومَشَى عليها مالكاً ادراجها … متشوقاً لمسيله عَجْلانا

غَنِنَتْ به غُرُّ الضِفاف فخورةً … وزَهَا به يَبَسُ الثَرى جذلانا

وكسا الحشائشَ رونقاً لم تُعطَهُ … وجلا رُواءُ نميره العيدانا

وبدا الحَصَى اللمّاعُ في رَقراقه … دُرراً غواليَ تزدهي وجُمانا

تَرَكَ الجبالَ وعُريَها وهَجيرَها … وتقمَّصَ الاشجارَ والأغصانا

ورمى الخيالَ بمعجزٍ من حُسْنِهِ … في حالتَه كاسياً عُرْيانا

واستقبلته على الضِفاف بلابلٌ … نَشْوى تُغَنِّى مثلَه نَشْوانا

مُتَلوِّياً يُعطيك في لَفتاته … بين المسارب تائهاً حيرانا

ألقت عليه الشمسُ نُوراً باهتاً … زان الظلال رقيقةً وازدانا

وارتد إبّان الظهيرة غائماً … كالفجر يُعلن ضجةً اِيذانا

أوغَلتُ في أحراجه وكأنني … أصبحت أولَ مرَّةٍ فنّانا

وكأنني فيما أُحاولُ ، هاربٌ … حَذِرٌ مخافةَ ان يَرَى إنسانا

ووجدتُ نفسي والطبيعة ناسيا … ماذا يضمّ العالمان سوانا

ورميتُ أثقال المطامحِ جانباً … ووجدت عن خُدُعاتِها سُلوانا

وحسِبت عصفوراً يُلاعب ظلَّه … في الماءِ ينعمُ راحةً وأمانا

واستسلمتْ نفسي لاحلامِ الصبا … ولمَسْت طيف خيالها يقظانا

ومَزَجْتُ بين الذكريات خليطةً … فوجدتُني متلذِّذاً أسيانا

وتسلَّلتْ بالرَغم مني مرَّةً … صُورُ الحقائق تبعثُ الأشجانا

فإذا الخيال المحضُ يلمعُ زاهياً … وإذا الحقيقةُ تُطفىءُ اللمَعَانا