بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ – الياس أبو شبكة
بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ … فَوقَ حَصباءِ شاطىءٍ لازوردي
تَحتَ أُفقٍ كَالخَدِّ أَو كَالفَرَندِ … أَملَسٍ عَطَّرتَه نَفحَةُ رَندِ
كانَ داودُ دائِماً يَتَرَدَّد … وَعلى صَخرَةٍ يُهَيِّىءُ مُقعَد
فَإِذا مالَتِ الغُصونُ تَنهَّد … وَاِنجَلى عَنهُ حُزنُهُ وَتَبَدَّد
كانَ حلوَ الحَديثِ عَذبَ الطِباعِ … شاعِراً مُصغِياً لكلِّ التِياعِ
إِن رَأى أَدمُعاً بَكَت لِدَواعِ … ذَرفَ الدَمعَ من عُيونِ اليراعِ
كُلَّما كانَ جالِساً يَتَأَمَّل … في السَواقي ذاتِ الزَلالِ المسلسل
كَيفَ تَجري بِدون أَن تَتَمَهَّل … ثُمَّ تَنصَبُّ جَدولاً إِثرَ جَدوَل
كانَ يَمضي أَمامَهُ اِمرَأَتانِ … كَرُخامِ القُبورِ صامِتَتانِ
تَنظُرانِ الرَبيعَ بَعضَ ثَوانِ … وَوَراءَ الأَدغالِ تَختَفِيانِ
كَهلَةٌ قَد تُناهِزُ الخَمسينا … وَفَتاةٌ لا تَبلغُ العِشرينا
حَمَلَت في الضُلوع داءً دَفينا … فَهيَ تَسلو الآلامَ حيناً وَحينا
مُقلَتَاها ما عادَتا مُقلَتَيها … فَهما مَيتَتانِ في جَفنَيها
وَيَداها في الداءِ غَيرُ يَدَيها … أَيُّها السِلُّ لِم جَنَيتَ عَلَيها
بَعدَ شَهرٍ كَأَنَّما هُوَ عامٌ … نَسَجَت فيهِ بُردَها الآلامُ
شاءَ داودُ أَن يَكونَ سَلامٌ … وَاِبتِسامٌ ما بَينَهُم وَكَلامُ
وَدَرى بَعدَ ذاكَ أَنَّ أَباها … ماتَ بِالداءِ نَفسِهِ وَأَخاها
فَبَكى راثِياً جَمالَ صِباها … وَاِبتِساماً مُوَدِّعاً في لماها
أُمها وَهيَ أَثكَلُ الأُمَّهاتِ … بَعدَ تِلكَ المَشاهِدِ الماضِياتِ
لَم تَكُن تَستَطيعُ بِالبَسماتِ … رَدعَ مَصدورَة عَن الحَسَراتِ
طالَما ذِكرَياتُ تِلكَ المَشاهِد … عاوَدَتها وَاللَيلُ سَكرانُ ساهِد
يَومَ كانَت تَبكي أَمامَ الوسائِد … حيثُ ماتَ الوَليدُ بَعد الوالِد
ربِّ قالَت يا رَبَّ هذا الوُجودِ … وَرَجاءَ الشَقِيِّ وَالمَنكودِ
قَد كَفاني في شَقوَتي وَجُهودي … موتُ زَوجي الفَتى وَمَوتُ وَحيدي
ذاتُ حُسنٍ كَالفَجرِ في نيسانِ … لامَسَتهُ أَنامِلُ الأَحزانِ
وَبياضٍ كَالثَلجِ في لُبنانِ … وَحَديثٍ يُذيبُ في الآذانِ
مُقلَتاها رَمزُ الفُؤادِ الوَجيعِ … وَلماها اِستَعارَ لَونَ الشُموعِ
هكَذا هِندُ وَهيَ بِنتَ الدموعِ … كانَ يَبدو شبابُها في الرَبيعِ
ذاتَ يَومٍ وَقَد تَدانى الغِيابُ … جَلَست هِندُ في يَدَيها كِتابُ
قَرَأَت فَترَةً وَجاءَ الضَبابُ … فَمَضى فيهِ جِفنُها المُرتابُ
هِندُ لِم أَنت تَنظُرينَ الضَبابا … بِعُيونٍ ذابَت وَقَلبٍ ذابا
أَفهذي رؤىً تُريكِ الشَبابا … يَتَلاشى وَيَستَحيل ترابا
جاءَ هنداً داودُ بَعدَ الظُهورِ … فَرَآها وَالأُمَّ بَينَ الزهورِ
في يَدَيها قُماشَةٌ من حَريرِ … طَرَّزَت بَعضَها بِفَنِّ خَبيرِ
قالَ هذي لِمَن بِبَعضِ اِبتِسامٍ … إِنَّها مثلُ برنسٍ لِغلامِ
فَأَجابَت بِزَفرَةِ الآلامِ … لِفَتاةٍ تَزَوَّجت مُنذُ عامِ
فَأَتاها عِندَ الضُحى فَرَآها … وَكتابٌ يَهتَزُّ في يَمناها
فَإِذا عَينُها تُعيرُ اِنتِباها … صَفحَةً ودَّ لَو يعي فَحواها
فَمَضى خَلفَ ظَهرِها بِتَأَنِّ … فَرَآها تَتلو بِبَأسٍ وَحُزنِ
بيتَ شعرٍ قَد قالَهُ مُنذُ قرنِ … شاعِرٌ وَهو يا أَبي لا تُمِتني
أَبصَرت هِندُ وَهيَ تَفكُر بِالغَد … مِن خِلالِ الأَحلامِ قَبراً أَسوَد
رَقَدَت فيهِ غادَةٌ ما تَنَهَّد … صَدرُها في الحَياةِ حَتّى توسَّد
وَتَراءَت لَها عَروسُ القَبرِ … تَنحَني فَوقَ وَجهِها المصفِّر
في يَدَيها باقاتُ وَردٍ وَزَهرِ … نُثِرَت فَوقَ رَأسِها وَالصَدرِ
وَتَراءَت لَها البَناتُ العَذارى … راقِصاتٍ بِحُبِّهِنَّ سكارى
يَتَبارَينَ ما الشَبابُ تَبارى … بِجَمالٍ يُهَيِّجُ الأَوتارا
وَفَتىً ناظِرٌ بِعَطفٍ إِلَيها … رابَه السَقمُ في كلا خَدَّيها
خائِفٌ من دمٍ على شَفَتَيها … قاءَهُ ما جَنى عَلى رِئَتَيها
وَتَراءى لَها خَيالٌ مُخيفُ … بَينَ أَهدابِ مُقلَتَيها يَطوفُ
في يَدَيهِ مَشاعِلٌ وَسُجوفُ … مُثَّلَت دَورَها عَلَيها الصُروفُ
وَاِستَفاقَت لَدى اِرتِعاشٍ عَنيفٍ … دَبَّهُ الخَوفُ في صِباها الضَعيفِ
فَتَلاشَت كَالحُلمِ رُؤيا الطُيوفِ … وَتَوارَت أَمامَ دَمعٍ ذَريفِ
ربِّ قالَت أَلَم تَهِبني المُيولا … وَحَديثاً عَذباً وَوَجهاً جَميلا
فَلِماذا أِرى الشَبابَ بَخيلا … لا يرى وَجنَتَيَّ حَتّى يَميلا
يا إِلهي أَلَستُ يَوماً أُلاقي … عاشِقاً بَينَ مَعشَرِ العُشّاقِ
راحِماً في فُؤادي المُشتاقِ … غَيرَ دَمعٍ يَجولُ في آماقي
يا اِبنَةَ الدّاءِ يا اِبنَةَ الأَرماسِ … يا خَيالاً يَسيرُ في دَيماسِ
إِقتَصِد ما اِستَطَعتَ في الأَنفاسِ … إِنَّ رَسمَ الآلامِ وَالأَوجاسِ
أَنتَ لَم تَدرِ كَيفَ شَيئاً فَشَيّا … يقضمُ المَوتُ جِسمَكَ الملكيّا
يا مَلاكاً أَضَلَّكَ الدَهرُ غَيّا … في زَمانٍ ما كانَ قَطُّ وَفِيّا
سَوفَ تَمضي إِلى دِيار البَقاءِ … بَعد تِلكَ الأَسقامِ وَالأَدواءِ
طاهِراً كَالزنابِقِ البَيضاءِ … حامِلاً مشعَلَ الأَسى وَالبُكاءِ
سَوفَ يُغمى عَلَيكَ في ذا الوُجودِ … بَعدَ حينٍ إِغماءَ روحِ الوُرودِ
تاركاً في فُؤاد كُلِّ وَدودِ … راءَ في وَجهِك اِصفرارَ الخدودِ
قالَ داودُ ذاتَ يَومٍ لِنَفسِه … وَهوَ يَجلو بِالفِكرِ غامضَ درسِه
أَيَّ فَضلٍ يُبقي الفَتى بَعدَ رَمسه … إِن أَبى رَحمَةَ التَعيسِ بِتَعسِه
لَيسَ أَنقى من زَهرَةِ الأَحسانِ … فَوقَ صَدرِ المَجاهِد المُتَفاني
إِن أَكُن زَوجَ غادَةِ الأَحزانِ … أَفَلَيسَ الإنسانُ لِلإِنسانِ
سَوفَ تَحيا بِالحُبِّ تِلكَ الفَتاةُ … هكَذا قَد أَرادَتِ التَضحِياتُ
فَليُضيء بَينَ مُقلَتَيها المَماتُ … فَالمَنايا عِندَ الهَوى هَيِّناتُ
وَمَضى الشاعِرُ الطَويلُ الأَناةِ … باسِطاً أَمرَهُ لِأُمِّ الفَتاةِ
قائِلاً إِنَّ مُهجَتي وَحَياتي … وَجهادي وَكلّ أُمنِيّاتي
سَوفَ تَحيا هِندُ السِنين الطِوالا … لَيسَ داءُ الفَتاةِ داءً عضالا
فَثِقي بي وَأَنعِشي الآمالا … أَنا مِثرٍ فَلَستُ أَطلُبُ مالا
سَوفَ تَشفى مِن دائِها بَعدَ عامِ … سَوفَ نَحيا بِغَبطَةٍ وَسَلامِ
وَثِقي أَنَّ هِندَ ذاتَ السقامِ … سَتَراني أَخاً مَعَ الأَيّامِ
فَبَكَت أُمُّها لِهذا الكَلام … بِعيونٍ تشعُّ بِالأَحلامِ
وَلدُن أَيقَنَت بِصِدقِ المَرامِ … شَكَرَتهُ بِمَدمَعٍ بَسّامِ
هِندُ إِنّي أَهواكِ أَهوى جَمالا … يَرشِقُ الحُبُّ مِن لماكِ نبالا
قالَ هذا وَقد رَأى الآمالا … راسِماتٍ في مُقلَتَيها خَيالا
فَأَجابَت وَقد عَراها السُكوتُ … بَعضَ حينٍ كَأَنَّهُ هاروتُ
كَيفَ تَهوى أَلا تَراني عييتُ … مُقلَتي تَنطَفي وَقَلبي يَموتُ
قالَ لا بَل تَحيَينَ عُمراً طروبا … وَتَرَينَ الحَياةَ عيشاً خصيبا
فَأَنا عاقِلٌ سَأَلتُ الطَبيبا … قالَ لي هِندُ سَوفَ تَشفى قَريبا
مرَّ بِالعاشِقينِ أُسبوعانِ … هَيَّئا فيهِما جِهازَ القرانِ
وَالرَبيعُ الجَميلُ في نيسانِ … كانَ يَزهو بِالفُلِّ وَالريحانِ
بِحَريرٍ مُزَركَشٍ وَمُخَرَّم … وَطِرازٍ عَلى النَوافِدِ مُعلم
هكَذا غُرفَةُ الزَفافِ الأَقتَم … بَرَزَت وَهيَ تَستعدُّ لِمَأتم
وَسَريرٍ أُعدَّ فيها صَغير … أُلقِيَت فَوقَه سُتورُ الحَريرِ
لَعبت أَنملُ النَسيم الطهورِ … بِجَنايا رِدائِه المَنشورِ
وَهنا بَعدَ عرسِها الملكيِّ … ظَهَرت هِندُ كَالصَباحِ البَهِيِّ
بِنَقاءٍ ككلِّ قَلبٍ نَقِيِّ … وَبَياضٍ كَثَوبِها الزَنبَقيِّ
ما لِتِلكَ الفراشَةِ السَوداءِ … تَتَغَنّى في الغُرفَةِ البَيضاءِ
جَنحُها حالكٌ كَقطعِ الرجاءِ … وَغناها الرَهيبُ رَمزُ البُكاءِ
ذاتَ يَومٍ وَقد تَدانى الظَلامُ … خَفَقَت في ضُلوعِها الآلامُ
فَتَرامَت وَقد تَراءى الحمامُ … مُستَفيضاً في عينها لا يَنامُ
وَاِستَفاقَت قَبلَ المَماتِ الرَهيبِ … فَرَأَت زَوجَها كَثيرَ الشحوبِ
يا حَبيبي قالَت لهُ يا حَبيبي … حانَ مَوتي وَجاءَ وَقتُ مَغيبي
غَيرَ أَنّي أَمضي لِدارِ البقاءِ … بِسُرورٍ وَغِبطَةٍ وَصَفاءِ
فَأَنا رُغمَ عِلَّتي وَبَلائي … ذُقتُ طعمَ الهَوى كَباقي النِساءِ
وَاِرتَمى رَأسُها اِرتِماءَ يَدَيها … وَتلاشى اللهاثُ في مُرشَفَيها
فَبَدَت وَالدماءُ في شَفَتَيها … مِثلَ شاةٍ بَيضاء أَلقى عَلَيها
أَيُّ ذَنبٍ جنَته تِلكَ الصبيّه … ليجازى شَبابُها بِالمنِيَّه
ربِّ إِن كانَ أَصلُ تِلكَ الضَحِيَّه … والدٌ أَورَثَ السُمومَ الخَفِيَّه
ربِّ لِم أَنتَ تظلمُ الأَبرِياءَ … وَتَزيدُ العاني الشَقِيَّ شَقاءَ
هُم يَقولونَ هكَذا اللَهَ شاءَ … فَاِحتَرَم فيهِ حكمَةً عَلياءَ