القرية العراقية – محمد مهدي الجواهري

رونقٌ في الثَّرى وعلى الروضةِ … لطفٌ من السَّما مسكوبُ

ما أرقَّ الأصيلَ سال بشفَّافِ … شعاعٍ منه الفضاءُ الرحيب

كلُّ شيءٍ تحت السماء بلونٍ … شفقيًّ مورَّدٍ مخضوب

وكأن الآفاقَ تَحْتَضِنُ الأرضَ … بآصالِها إطارٌ ذهيب

مَتّعِ العينَ إنَّ حُسناً تراهُ … الآنَ من بعدِ ساعةٍ منهوب

والذي يخلَعُ الأصيلُ على الأرض … بكفِّ الدُّجى أخِيذٌ سليب

منظرٌ للحقولِ إذ تُشرقُ الشمسُ … جميلٌ وإذ يَحيِنُ الغروب

ولقد هزّني مسيلُ غديرٍ … مِنْ على جانبيهِ روضٌ عشيب

يُظهِر الشيءَ ضدُّه .. وتُجارى … بسواها محاسنٌ وعيوب

وكذاكَ المرعى الخصيبُ يُحلّيه … إلى الناظرينَ مرعىً جديب

ثمَّ دبَّ المَساءُ تَقْدمُه الأطيارُ … مرعوبةً وريحٌ جَنوب

وغناءٌ يتلو غناءً ورُعيانٌ … بقُطْعانِهم تَضيقُ الدروب

يَحْبِسُ العينَ لانتشار الدياجي … في السَّما منظرٌ لطيفٌ مَهيب

شفَقٌ رائعٌ رويداً رويداً … تحتَ جُنحٍ من الظلام يذوب

وترى السُحبَ طيَّةً تِلوَ أُخرى … قد أُجيد التنسيقُ والترتيب

وتراها وشعلةً الشفقِ الأحمرِ … تبدو أثناءها وتغيب

كرَمادٍ خلاَّهُ وانزاحَ عنه … قبسٌ وسْطَ غابةٍ مشبوب

ثمَّ سدَّ الأفقَ الدُّخانُ تعالى … من بيوتٍ للنارِ فيها شُبوب

منظرٌ يبعثُ الفراهة والأنسَ لقلبِ … الفلاّح حين يئوب

يعرفُ اللقمةَ الهنيئةَ في البيتِ … مُجدٌّ طولَ النهار دَءوب

بُرهةً ريثما انقضى سمرٌ … تقطرُ لطفاُ أطرافُه وتَطيب

واستقلَّ السريرَ أو حُزمةَ القشِّ … أريبٌ . نِضْوٌ . حريبٌ . تَريب

سكنَتْ كلُّ نأمةٍ واستقرَّتْ … واستفزَّ الأسماعَ حتَّى الدَّبيب

واحتواهمْ كالموتِ نومٌ عميق … وتغشَّاهُمُ سكونٌ رهيب

ولقد تَخرِقُ الهدوءَ شُويهاتٌ … وديكٌ يدعو وديكٌ يُجيب

أو نداءاتُ حارسٍ وهو في الأشباح … لاحتْ لعينه مستريب

أو صدَى ” طَلقةٍ ” يبيتُ عليها … أحدُ الجانبينِ وهو حريب

تركَ الزارعُ المَزارعَ للكلب … فأضحى خلالَهنَّ يجوب

شامخٌ كالذي يُناطُ به الحكمُ … له جَيئةٌ بها وذُهوب

كانَ جُهدُ الفلاّحِ خفَّف عنه … جَهدهُ فهو مُستكِنٌّ أديب

وهو في الميلِ غيرهُ الصبحَ وحشٌ … هائجٌ ضيِّق الفؤادِ غَضوب

فاحصٌ ظُفْرَه ونابيهِ أحلى … ما لديهِ أظفارهُ والنُيوب

إنَّه عن رِعاية الحَقلِ مسئول … على ترك أمره معتوب

وكثيراً ما سرَّه أنَّه بات … جريحاً .. ورأسًه مشجوب

ليرى السيّدُ الذي ناب عنه … أنَّ حيوانَه شُجاعٌ أريب

ولكيلا يرى مُسامحةً … يَعدِلُ منها لغيره ويُنيب

للقُريَّاتِ عالَمٌ مُستقلٌّ … هو عن عالَمٍ سواه غريب

يتساوى غروبُهم وركودُ النفس … منهم وفجرهُم والهبُوب

كطيور السماءِِِ همّهُمُ الأوحدُ … زرعٌ يرَعْونه وحبوب

يلحظون السماءَ آناً فآناً … ضحكُهم طوعُ أمرها والقُطوب

أتُرى الجوَّ هادئاً أمْ عَصوفاً … أتصوبُ السماء أمْ لا تصوب

إن يومَ الفلاّحِ مهما اكتسى حُسناً … بغير الغيومِ يومٌ عصيب

وهو بالغيمِ يخنقُ القلب والأفقَ … جميلٌ في عينه محبوب

للقُرى روعةٌ وللقرويِّين … إذا صابَ أرضهم شُؤبوب

تُبْصِرُ الكلَّ ثمَّ حتى الصَّبايا … فوقَ سِيمائهم هناءٌ وطِيب

يُفرِح البيتَ أنَّه سوف تُمسي … بقراتٌ فيه وعنزٌ حَلوب

ويرى الطفلُ أنَّ حصتَّه إذْ … يُخصبُ الوالدان ثوبٌ قشيب

أذكياءٌ .. عيونُهم تسبقُ الألسُنَ … عمَّا ترومه وتنوب

والذي يَستمدُّ من عالم القريةِ … وَحياً وعيشةً لَلبيب

مطمئنونَ يحلُمونَ بأنَّ الخيرَ … والشرَّ كُلّهُ مكتوب

لا يطيرونَ من سرورٍ ولا حزنٍ … شَعاعاً ، لأنه محسوب

ولقد يغضَبون إذ ينزلُ الغيثُ … شحيحاً …والأرضُ عطشى تلوب

أتُرى كانَ يعوِز اللهَ ماءٌ … لو أتتْ دِيمةٌ علينا سَكوب

ثمَّ يستفظعون إثمَ الذي قالوا … فينوونَ عندهُ أنْ يتوبوا

فإذا الشمسُ فوقهم فيقولون : … أعُقبى إنابةٍ تعذيب ؟

أفإيمانُنا بعيدٌ عنِ الخيرِ … وُكفراننا إليه قريب..

هكذا يَرجِعُ التقىّ أمامَ … العقلِ وهو المشكِّكُ المغلوب

قلتُ إذ رِيعَ خاطري من مُحيطٍ … كلُّ ما فيه موحشٌ وكئيب

ليس عدلاً تشاؤمُ المرءِ في الدنيا … وفيها هذا المحيط الطَروب

مِلءُ عينيكَ خضرة تًستسرٌّ … النفسُ منها وتُستطار القلوب

عندَهم مثلَ غيرِهم رغباتٌ … وعليهمْ كما عليه خطوب

غير أنّ الحياةَ حيثُ … تكونُ المدنيَّاتُ جُلّها تعذيب

كلَّما استُحدثتْ ضروبُ أمانٍ … أعقبتها من البلايا ضروب

وكأنَّ السرورَ يُومِض برقاً … من خِلال الغيومِ ثمَّ يَغيب

لا ترى ثَمَّ – غيرَ أن يتركَ الحبُّ … شحوباً – وجهاً علاهُ الشحوب

ثمّ لاشيء عن سنا الشمس ممنوعٌ … ولا عن طلاقةٍ محجوب

الهواءُ الهبَّابُ ، والنورُ ، … والخضرةُ تأتي ما ليس يأتي الطبيب

ثمّ باسمِ الحصادِ في كلّ حقلٍ … تتناجى حبيبةٌ وحبيب

قال فردٌ منهمْ لأخرى وقد … هَيَّجَ نفسيهما ربيعٌ خصيب

طابَ مَنشا زروعِنا فأجابت : … إنَّ نشءاً يرعاهُ كْفءٌ يطيب

قال ما أصبرَ الحقولَ على الناسِ … فقالتْ ومثلُهنَّ القلوب

إنّ ما تفعلُ المناجلُ فيها … دونَ ما يفعلُ الشجا والوجيب

ينهضُ الزرعُ بعدَ حصدٍ وقد … يُجتثُّ من أصله فؤادٌ كئيب

يا فؤادي المكروبُ بعثرَكَ الهمُّ … كما بُعثِرَ الثرى المكروب

وعيوني هلاّ نَضبتِ .. وقد ينضبُ … من فرطِ ما يسيل القليب

عندَهم منطقٌ هنالكَ للحبِّ … جميلٌ وعندَهم أُسلوب

ولهم في الغرامِ أَكْثَر ممّّا … لسواهمْ مضايقٌ ودروب

مُلَحٌ خُصصِّتْ لهم ونِكاتٌ … ملؤهنَّ الإبداعُ والتهذيب

ثَمَّ تحتَ الستارِ ممتَلكٌ بالحبِّ … عفواً .. ومثلُه مغصوب

إنهمْ يُذنبونَ . ثم يقولون: … محالٌ أنْ لا تكونَ ذُنوب

نحنُ نبتُ الطبيعةِ البِكرِ فينا … حسناتٌ منها .. وفينا عيوب

بنتُنا وابنُنا معاً يرقُبانِ الزرعَ … والضرعَ .. والضمير رقيب

ليس ندري ما يفعلانِ ولا نعلمُ … عمَّا زُرّتْ عليه الجيوب

ما علينا ما غابَ عنَّا فعندَ … اللهِ تُحصى مظاهرٌ وغيوب

غيرَ أنَّا ندري وكنَّا شباباً … نتصابى أنَّ الجمالَ جَذوب

والفتى ما استطاعَ مُندفِعٌ نحو … الصباباتِ .. والفتاةُ لَعوب

بالتصابي يُذكي الشبابُ ويغتُّر … كما بالرِّياح يُذكى اللهيب

ثمّ عندَ اللقاء يُعرفُ إن كان … هنلكم ” نجيبةٌ .. ” أو نجيب..

إنّ بعضَ الرجال يبدو أمامَ الحبِّ … صُلباً والأكثرون يذوب

والتجاريبُ علَّمتنا بأنّ المرءَ … غِرٌّ يُقيمه التجريب

ليس بِدعاً أن نَستريبَ ولكن … نتمنىَّ ألاّ نرى ما يُريب

ليس فينا والحمدُ للهِ حتى الآنَ … بيتٌ ” إناؤهُ مقلوب “

فإذا كانَ ما نخافُ فهرقُ الدّمِ … سهلٌ كما تُراقُ ذَنوب

منطقٌ للعقولِ أقربُ ممَّا … يدَّعيه أخو عَفافٍ مُريب

ولقد يرمزونَ ” عنَّا ” بأنَّا … كلُّ ما في محيطنا مَثلوب

فيقولون: قد تطيحُ من العارِ … بيوتٌ .. وقد تثورُ حروب

والخَناسبَََََّةٌ علينا ولكن … في القُرى كلُّ ناقصٍ مسبوب

عندنا كالفتى ” الخفيفِ ” لئيمٌ … وجبانٌ ، وغادرٌ ، وكذوب

يُخجِلُ الناسَ في القُرى أنَّ فرداً … من أُلاءٍ عليهمُ محسوب

إنَّه من خصائص المدنيَّاتِ … إليها شنارهُم منسوب

في القُرى يوسعوننا وصماتٍ … مُخجِلٍ أمرها ” البداةَ ” مَعيب

فيقولونَ : كلُّ شيءٍ صريحٍ … عندنا – عندكم خليطٌ مَشوب

شُوّشَتْ منكم وسيطتْ سِماتٌ … ولُغاتٌ ولهجةٌ وحليب

إنَّكم من نماذجِ العَربِ الساطينَ … ظُلماً عليهم تعريب..

كجليبٍ من البضائعِ يأتيكم من … العالمينَ وجةٌ جليب

هو منكمْ كالأهلِ في كلِّ شيءٍ … وهو فينا عن كلِّ شيءٍ جنيب

إنَّكم تمدحونَ خُبثاً وعدواناً … وغدراً كأنما المرءُ ذيب