الدمعة الخرساء
سمعت عويل النائحات عشية ... في الحيّ يبتعث الأسى و يثير
يبكين في جنح الظلام صبيّة ... إنّ البكاء على الشباب مرير
فتجهّمت و تلفّتت مرتاعة ... كالظبي أيقن أنّه مأسور
و تحيّرت في مقلتيها دمعة ... خرساء لا تهمي و ليس تغور
فكأنّها بطل تكنّفه العدى ... بسيوفهم و حسامه مكسور
و جمت ، فأمسى كلّ شيء واجما ... ألنور ، و الأظلال ، و الديجور
ألكون أجمع ذاهل لذهولها ... حتى كأنّ الأرض ليس تدور
لا شيء ممّا حولنا و أمامنا ... حسن لديها و الجمال كثير
سكت الغدير كأنّما التحف الثرى ... وسها النسيم كأنّه مذعور
و كأنّما الفلك المنوّر بلقع ... و الأنجم الزهراء فيه قبور
كانت تمازحني و تضحك فانتهى ... دور المزاح فضحكها تفكير
قالت وقد سلخ ابتسامتها الأسى : ... صدق الذي قال الحياة غرور
أكذا نموت و تنقضي أحلامنا ... في لحظة ، و إلى التراب نصير ؟
و تموج ديدان الثرى في أكبد ... كانت تموج بها المنى و تمور
خير إذن منّا الألى لم يولدوا ... و من الأنام جلامد و صخور
و من العيون مكاحل و مراود ... و من الشفاه مساحيق و ذرور
و من القلوب الخافقات صبابة ... قصب لوقع الريح فيه صفير
و توقّفت فشعرت بعد حديثها ... أن الوجود مشوّش مبتور
ألصيف ينفث حرّه من حولنا ... و أنا أحسّ كأنّني مقرور
ساقت إلى قلبي الشكوك فنغّصت ... ليلي ، و ليس مع الشكوك سرور
و خشيت أن يغدو مع الرّيب الهوى ... كالرسم لا عطر و فيه زهور
و كدميه المثّال حسن رائع ... ملء العيون و ليس ثمّ شعور
فأجبتها : لتكن لديدان الثرى ... أجسامنا إنّ الجسوم قشور
لا تجزعي فالموت ليس يضيرنا ... فلنا إياب بعده و نشور
إنّا سنبقى بعد أن يمضي الورى ... و يزول هذا العالم المنظور
فالحب نور خالد متجدد ... لا ينطوي إلاّ ليسطع نور
و بنو الهوى أحلامهم ورؤاهم ... لا أعين و مراشف و نحور
فإذا طوتنا الأرض عن أزهارها ... و خلا الدجى منّا و فيه بدور
فسترجعين خميلة معطارة ... أنا في ذراها بلبل مسحور
يشدو لها و يطير في جنباتها ... فتهشّ إذ يشدو و حين يطير
أو جدولا مترقرقا مترنّما ... أنا فيه موج ضاحك و خرير
أو ترجعين فراشة خطّارة ... أنا في جناحيها الضحى الموشور
أو نسمة أنا همسها و حفيفها ... أبدا تطوّف في الذرى و تدور
تغشى الخمائل في الصباح بليلة ... و تؤوب حين تؤوب و هي عبير
أو نلتقي عند الكثيب ، على رضى ... و قناعة ، صفصافة و غدير
تمتدّ فيه و في ثراه عروقها ... و يسيل تحت فروعها و يسير
و يغوص فيه خيالها فيلفه ... و يشفّ فهو المنطوي المنشور
يأوي إذا اشتدّ الهجير إليهما ... ألناسكان : الظبي و العصفور
لهما سكينتها ووارف ظلّها ... و الماء إن عطشا لديه وفير
أعجوبتان زبرجد متهدل ... نام تدفّق تحته البلّور
لا الصبح بينهما يحول و لا الدجى ... فكلاهما بكليهما مغمور
تتعاقب الأيّام و هي نضيره ... مخضرّة الأوراق ، و هو نمير
فالدهر أجمعه لديهما غبطة ... فالدهر أجمعه لديها حبور
فتبسّمت و بدا الرضى في وجهها ... إذ راقها التمثيل و الصوير
عالجتها بالوهم فهي قريرة ... و لكم أفاد الموجع التخدير
ثمّ افترقنا ضاحكين إلى غد ... و الشهب تهمس فوقنا و تشير
هي كالمسافر آب بعد مشقّة ... و أنا كأنّي قائد منصور
لكنّني لمّا أويت لمضجعي ... خشن الفراش عليّ و هو وثير
و إذا سراجي قد وهت و تلجلجت ... أنفاسه فكأنّه المصدور
و أجلت طرفي في الكتاب فلاح لي ... كالرسم مطموسا و فيه سطور
و شربت بنت الكرم أحسب راحتي ... فيها : فطاش الظنّ و التقدير
فكأنّني فلك وهت أمراسها ... و البحر يطغى حولها و يثور
سلب الفؤاد رواه و الجفن الكرى ... همّ عرا ، فكلاهما موتور
حامت على روحي الشكوك كأنّها ... و كأنّهن فريسة و صقور
و لقد لجأت إلى الرجاء فعقّني ... أما الخيال فخائب مدحور
يا ليل أين النور ؟ إنّي تائه ... مر ينبثق ، أم ليس عندك نور ؟
" أكذا نموت و تنقضي أحلامنا ... في لحظة و إلى التراب نصير ؟ "
" خير إذن منّا الألى لم يولدوا ... و من الأنام جنادل و صخور "