يافا الجميلة – محمد مهدي الجواهري
بـ ” يافا ” يومَ حُطَّ بها الرِكابُ … تَمَطَّرَ عارِضٌ ودجا سَحابُ
ولفَّ الغادةَ الحسناءَ ليلٌ … مُريبُ الخطوِ ليسَ به شِهاب
وأوسعَها الرَذاذُ السَحُّ لَثْماً … فَفيها مِنْ تحرُّشِهِ اضطِراب
و ” يافا ” والغُيومُ تَطوفُ فيها … كحالِمةٍ يُجلِّلُها اكتئاب
وعاريةُ المحاسن مُغرياتٍ … بكفِّ الغَيمِ خِيطَ لها ثياب
كأنَّ الجوَّ بين الشمسِ تُزْهَى … وبينَ الشمسِ غطَّاها نِقاب
فؤادٌ عامِرُ الإيمانِ هاجَتْ … وسوِسُه فخامَرَهُ ارتياب
وقفتُ مُوزَّعَ النَّظَراتِ فيها … لِطَرفي في مغَانيها انْسياب
وموجُ البحرِ يَغسِلُ أخْمَصَيْها … وبالأنواءِ تغتسلُ القِباب
وبيّاراتُها ضَربَتْ نِطاقاً … يُخطِّطُها . كما رُسمَ الكتاب
فقلتُ وقد أُخذتُ بسِحر ” يافا ” … واترابٍ ليافا تُستطاب
” فلسطينٌ ” ونعمَ الأمُ ، هذي … بَناتُكِ كلُها خوْدٌ كَعاب
أقَّلتني من الزوراءِ رِيحٌ … إلى ” يافا ” وحلَّقَ بي عُقاب
فيالَكَ ” طائراً مَرِحاً عليه … طيورُ الجوِّ من حَنَقٍ غِضاب
كأنَّ الشوقَ يَدفَعُهُ فيذكي … جوانِحَهِ من النجم اقتراب
ركبِناهُ لِيُبلِغَنا سحاباً … فجاوزَه ، لِيبلُغَنا السّحاب
أرانا كيف يَهفو النجمُ حُبَّاً … وكيفَ يُغازِلُ الشمسَ الَّضَباب
وكيفَ الجوُّ يُرقِصُهُ سَناها … إذا خَطرتْ ويُسكِره اللُعاب
فما هيَ غيرُ خاطرةٍ وأُخرى … وإلاّ وَثْبةٌ ثُمَّ انصِباب
وإلاّ غفوةٌ مسَّتْ جُفوناً … بأجوازِ السماءِ لها انجِذاب
وإلاّ صحوةٌ حتّى تمطَّتْ … قوادِمُها ، كما انتفَضَ الغُراب
ولمّا طبَّقَ الأرَجُ الثنايا … وفُتِّح مِنْ جِنانِ الخُلدِ باب
ولاحَ ” اللُّدُّ ” مُنبسِطاً عليهِ … مِن الزَهَراتِ يانِعةً خِضاب
نظْرتُ بمُقلةٍ غطَّى عليها … مِن الدمعِ الضليلِ بها حِجاب
وقلتُ وما أُحيرُ سوى عِتابٍ … ولستُ بعارفٍ لِمَنِ العتاب
أحقَّاً بينَنا اختلَفَتْ حُدودٌ … وما اختَلفَ الطريقُ ولا التراب
ولا افترقَتْ وجوهٌ عن وجوهٍ … ولا الضّادُ الفصيحُ ولا الكِتاب
فيا داري إذا ضاقَت ديارٌ … ويا صَحبيْ إذا قلَّ الصِحاب
ويا مُتسابقِينَ إلى احتِضاني … شَفيعي عِندَهم أدبٌ لُباب
ويا غُرَّ السجايا لم يَمُنُوا … بما لَطُفوا عليَّ ولم يُحابوا
ثِقوا أنّا تُوَحَّدُنا همومٌ … مُشارِكةٌ ويجمعُنا مُصاب
تَشِعُّ كريمةً في كل طَرفٍ … عراقيٍّ طيوفُكُم العِذاب
وسائلةٌ دَماً في كلِّ قلبٍ … عراقيٍّ جُروحُكم الرِغاب
يُزَكينا من الماضي تُراثٌ … وفي مُستَقْبَلٍ جَذِلٍ نِصاب
قَوافِيَّ التي ذوَّبتُ قامَتْ … بِعُذري . إنّها قلبٌ مُذاب
وما ضاقَ القريضُ به ستمحو … عواثِرَهُ صُدورُكم الرّحاب
لئنْ حُمَّ الوَداعُ فضِقتُ ذَرعاً … به ، واشتفَّ مُهجتيَ الذَّهاب
فمِنْ أهلي إلى أهلي رجوعٌ … وعنْ وطَني إلى وطني إياب