كَمْ غادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِكَمْ – محمود سامي البارودي
كَمْ غادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ … وَلَرُبَّ تَالٍ بَزَّ شَأْوَ مُقَدَّمِ
فِي كُلِّ عَصْرٍ عبْقَرِيٌّ، لاَ يَنِي … يفرى الفرَّ بكلَّ قولِ محكمِ
وَ كفاكَ بي رجلا إذا اعتقلَ النهى … بِالصَّمْتِ، أَوْ رَعَفَ السِّنَانُ بِعَنْدَمِ
أَحْيَيْتُ أَنْفَاسَ الْقَرِيضِ بِمنْطِقِي … وَ صرعتُ فرسان العجاجِ بلهذمي
وَ فرغتُ ناصية َ العلا بفضائلٍ … هُنَّ الْكَوَاكِبُ فِي النَّهَارِ الْمُظْلِمِ
سَلْ مِصْرَ عَنِّي إِنْ جَهِلْتَ مَكَانَتِي … تُخْبِرْكَ عَنْ شَرَفٍ وَعِزٍّ أَقْدَمِ
بَلِهٌ، نَشَأْتُ مَعَ النَّبَاتِ بِأَرْضِهَا … وَلَثَمْتُ ثَغْرَ غَدِيرِهِ الْمُتَبَسِّمِ
فنسيمها روحي ، ومعدنُ تربها … جِسْمِي، وَكَوْثَرُ نِيلِهَا مَحْيا دَمِي
فإذا نطقتُ فبالثناءِ على الذي … أَوْلَتْهُ مِنْ فَضْلٍ عَلَيَّ وَأَنْعُمِ
أَهْلِي بِها، وأَحِبَّتِي، وَكَفى بِهِمْ … إِنْ كَانَتِ الأَبْنَاءُ خُورَ الأَعْظُمِ
وَأَحَقُّ دَارٍ بِالْكَرَامَة ِ مَنْزِلٌ … للقلبِ فيهِ علاقةق لمْ تصرمِ
هِيَ جنَّة ُ الْحُسْنِ الَّتِي زَهَرَاتُهَا … حورُ المها ، وهزارُ أيكتها فمي
ما إنْ خلعتُ بها سيورَ تمائمي … حتى لبستُ بها حمائلَ مخذمي
وَغَنِيتُ عَنْ قُلَّتِي بعَامِلِ أَسْمَرٍ … وَسَلَوْتُ عَنْ مَهْدِي بِصَهْوَة ِ أَدْهَمِ
وَ فجرتُ ينبوع البيانِ بمنطقٍ … عذبٍ ، رويتُ بهِ غليلَ الحرمِ
وَ لكمْ أثرتُ غيابة ً منْ قسطلٍ … بمهندي ، وَ حللتُ عقدة َ مبرمِ
أختالُ طوراً فوقَ ذروة ِ منبر … و أكرُّ طوراً فوقَ نهدٍ شيظمِ
حتى ربأتُ منَ المعالي هضبة ً … شماءَ تزلقُ أخمص المتسنمِ
نشأتْ بطبعي للقريضِ بدائعٌ … لَيْسَتْ بِنِحْلَة ِ شَاعِرٍ مُتَقَدِّمِ
يصبو بها ” الحكميُّ ” صبوة َ عاشقٍ … وَ تخفُّ منْ طربٍ عريكة ُ ” مسلمِ “
قَوَّمْتُهُ بَعْدَ اعْوِجَاجِ قَنَاتِهِ … وَ الرمحُ ليسَ يروقُ غيرَ مقومِ
فقرٌ يكادُ السحرُ يبلغُ بعضَ ما … فِي طَيِّهَا لَوْ كَانَ غَيْرَ مُحَرَّمِ
مُتَشَابِهُ الطَّرَفَينِ، يُنبِىء ُ صَدْرُهُ … عما تلاحقَ ؛ فهوَ بادي المعلمِ
أحكمتُ منطقهُ بلهجة ِ مفلقٍ … يَقِظِ الْبَدِيهَة ِ، فِي الْقَرِيضِ مُحَكَّمِ
يبتذُّ أهبة َ كلَّ فارسِ بهمة ٍ … وَيَزُمُّ شِقْشِقَة َ الْفَتِيقِ الْمُقْرَمِ
ذللتُ منهُ غوارباً لا تمتطى … وَخَطمْتُ مِنْهُ مَوَارِناً لَمْ تُخْطَمِ
شعرٌ جمعتُ بهِ ضروبَ محاسنٍ … لَمْ تَجْتَمِعْ قبْلِي لِحَيٍّ مُلْهَمِ
فإذا نسبتُ فتنتُ كلَّ مقنعٍ … وَإِذَا نَأَمْتُ ذَعَرْتُ كُلَّ مُلَثَّمِ
كَالرَّوْضِ تَسْمعُ مِنْهُ نَغْمة َ بُلْبُلٍ … وَالْغِيلِ تَسْمَعُ مِنْهُ زَأْرَة َ ضَيْغَمِ
أَدْرَكْتُ قَاصِية َ الْمَحَامِدِ وَالْعُلاَ … وَ شأوتُ فيها كلَّ أصيدَ مسنمِ
فأنا ابنُ نفسي إنْ فخرتُ ، وَ إنْ أكنْ … لأغرَّمنْ سلفِ الأكارمِ أنتمى
وَالْفَخْرُ بِالآبَاءِ لَيْسَ بِنَافِعٍ … إِنْ كَانَتْ الأَبْنَاءُ خُورَ الأَعْظُمِ
هَذَا، وَرُبَّتَ لَذَّة ٍ بَاشَرْتُهَا … فِي ظِلِّ أَخْضَرَ بِالْعَرَارِ مُنَمْنَمِ
طفقَ النسيمُ يحوكُ برودهِ … بأناملٍ تمرى خيوطَ المرزمِ
فَبِكُلِّ أُفْقٍ مُزْنَة ٌ فَيَّاضَة ٌ … وَبِكُلِّ أَرْضٍ جَدْوَلٌ كَالأَرْقَمِ
هَاتِيكَ تَجْرِي فِي السَّماءِ كَأَنَّهَا … سُفُنٌ، وَهَذَا فِي الْخَمَائِلِ يَرْتَمِي
فالروضُ بينَ موشحٍ وَ مؤزرٍ … وَ الزهرُ بينَ مدنرٍ وَ مدرهمِ
طَلْقُ الْجَبِينِ، تَبَسَّمَتْ أَزْهَارُهُ … عنْ درَّ قطرٍ كالعقودِ منظمِ
عبقُ الإزارِ ، كأنما جرتِ الصبا … فِيهِ بِجُؤْنَة ِ عَنْبَرٍ لَمْ تُخْتَمِ
صبح الغمامُ غصونهُ ؛ فترنحتْ … طَرَباً لِرَجْعِ الطَّائِرِ الْمُتَرَنِّمِ
فنسيمهُ أرجٌ ، وطائرُ أيكهِ … هَزِجٌ، وَجَدْوَلُهُ بَرُودُ الْمَبْسِمِ
يَسْتَوْقِفُ الأَلْبَابَ حُسْنُ رُوَائِهِ … وَ يصيدُ عينَ الناظرِ المتوسمِ
وَ المرءُ طوعُ يدِ الزمانِ ، يقودهُ … قَوْدَ الْجَنِيبِ لِغَايَة ٍ لَمْ تُعْلَمِ
فلكٌ يدورُ ، وَ أنجمٌ لا تأتلي … تَبْدُو وَتَغْرُبُ فِي فَضَاءٍ أَقْتَمِ
صُوَرٌ إِذَا نَادَيْتها لمْ تَسْتَجبْ … أَوْ رُمْتَ مِنْهَا النُّطْقَ لَمْ تتكَلَّمِ
فدعِ الخفيَّ ، وخذْ لنفسكَ حظها … مِمَّا بَدَا لَكَ؛ فَهْوَ أَهْنَأُ مَغْنَمِ
لاَ يستطيعُ المرءُ يبلغَ ما نأى … عَنْهُ، وَلَوْ صَعِدَ السَّمَاءَ بِسُلَّمِ
بينا يشقُّ بهِ الجواءَ ترفعا … أهوى بهِ في كسرِ بيتٍ مظلمِ
إِنَّ الْحَيَاة َ شَهِيَّة ٌ مَا لَمْ تَكُنْ … غَرَضاً لإِمْرَة ِ ظَالِمٍ لَمْ يَرْحَمِ
لاَ أَرْتَضِي عَيْشَ الْجَبَانِ، وَلا أَرَى … فضلاً لذي حسبٍ إذا لمْ يقدمِ
وَلرُبَّ مَلْحَمَة ٍ سَرَيْتُ قِنَاعَهَا … عنْ وجهِ نصرٍ بالغبارِ ملثمِ
لَوْ كَانَ لِلإِنْسانِ عِلْمٌ بِالَّذِي … فِي الْغَيْبِ لَمْ يَفْرَحْ، وَلمْ يَتنَدمِ
فدعِ الأمورَ إلى مدبرِ شأنها … وَارْغَبْ عَنِ الدُّنْيَا بنفْسِكَ تَسْلَمِ
كلمات: بدر بن محمد بن عبدالعزيز
ألحان: سراج عمر
2000