سَلِ الفَلكَ الدوَّارَ إن كانَ يَنطِقُ – محمود سامي البارودي
سَلِ الفَلكَ الدوَّارَ إن كانَ يَنطِقُ … وكيفَ يُحيرُ الهوى أخرَسُ مُطرِقُ ؟
نُسائِلُهُ عَنْ شَأْنِهِ وَهْوَ صَامِتٌ … وَنَخْبُرُ مَا فِي نَفْسِهِ وهْو مُطْبَقُ
فلا سِرُّهُ يَبدو ، ولا نحنُ نَرعَوِى … وَلاَ شَأْوُهُ يَدْنُو، وَلاَ نَحْنُ نَلْحَقُ
وكَيفَ تنالُ النفسُ مِنهُ لُبانة ً … وَأَقْرَبُ مَا فِيهِ عَنِ الظَّنِ أَسْحَقُ؟
فَضاءٌ يَرُدُّ العينَ حَسرى ، ومَسرحٌ … يَقُصَّ جَنَاحَ الْفِكْرِ وَهْوَ مُحَلِّقُ
أقامَ على رَغمِ الفَناءِ ، وكلُّ ما … تَرَاهُ عَلَى وَجْهِ الْبَسِيطَة ِ يَنْفُقُ
فَكَمْ ثَلَّ عَرْشاً، وَاسْتَبَاحَ قَبِيلَة ً … وفَرَّقَ جَمعاً وهوَ لا يتفرَّقُ
تَحسَّى مراراتِ الكُبودِ ، فَلم تَزلْ … بهِ صِبغَة ٌ من لَونِها ، فهو أزرقُ
نَهارٌ وليلٌ يَدأبانِ ، وأنجمٌ … تَغيبُ إلى مِيقاتِها ، ثُمَّ تَشرقُ
تَرِفُّ كَزَهرٍ طَوَّحتهُ عواصِفٌ … بِلجَّة ِ ماءٍ ، فَهو يَطفو ويَغرقُ
سوابِحُ لا تَنفَكُّ تَجرِى لِغاية ٍ … يُقَصِّرُ عَنْهَا الْكَاهِنُ الْمُتَعَمِّقُ
فَيَأَيُّهَا السَّارِي عَلَى غَيْرٍ هُدْيَة ٍ … رُويداً ، فإنَّ البابَ دُونَكَ مُغلَقُ
أتَحسِبُ أنَّ الظَنَّ يُدرِكُ بَعضَ ما … تُحَاوِلُهُ وَالظَّنُّ لِلْمَرْءِ مُوبِقُ؟
وَكَيْفَ يَنَالُ الْحِسُّ وَهْوَ مُحَدَّدٌ … سَرِيرَة َ غَيْبٍ دُونَهَا الْحِسُّ يَصْعَقُ؟
فَلا تَتَّبِع ريبَ الظنونِ ، فَكلُّ ما … تَصَوَّرهُ الإنسانُ وَهمٌ مُلفَّقُ
ولا تَحسبنَّ الحَدسَ يُدرِكُ ما نأى … فَمَا كُلَّ حينٍ قَائِفُ الْحَدْسِ يَصْدُقُ
وَأَيْنَ مِنَ الْمَخْلُوقِ إِدْرَاكُ حِكْمَة ٍ … بِهَا يُنْشِيءُ اللَّهُ الْقُرُونَ وَيَمْحَقُ؟
فَلَوْ عَلِمَ الإِنْسَانُ حَالَة َ نَفْسِهِ … كَفاهُ ، ولَكِنَّ ابنَ آدَمَ أخرَقُ
إذا المرءُ لم يَملك بوادرَ وَهمهِ … عنِ القولِ فيما لم يُفِد فَهوَ أحمَقُ
فَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّ نَعِيمَهَا … يَزُولُ، وَمَلْبُوسُ الْجَدِيدَيْنِ يَخْلُقُ
فَإِنْ هِيَ أَعْطَتْكَ اللِّيَانَ فَإِنَّهَا … سَتَخشنُ من بَعدِ اللَّيانِ وتَخرقُ
فلا وُدُّها يَبقَى ، ولا صَفوُ عَيشِها … يَدُومُ، وَلاَ مَوْعُودُهَا يَتَحَقَّقُ
فَكم أخلَفَت وعداً ، ومَلَّت صَحابة ً … وخانت وَفِيًّا ، فَهى َ بَلهاءُ تَنزَقُ
وكيفَ يعيشُ الدَهرَ خِلواً منَ الأسى … سَقيمٌ يُغادِى بالهمومِ ويُطرَقُ ؟
لَعَمْرُ أَبِي إِنَّ الْحَيَاة َ وَإِنْ صَفَتْ … مَسافة َ يومٍفَهوَ صَفوٌ مُرنَّقُ
فَفِيمَ يَوَدُّ الْمَرْءُ طُولَ حَيَاتِهِ … وفى طُولِها شَملُ الهناءِ مُفرَّقُ ؟
وما الدهرِ إلاَّ مُستَعِدٌّ لِوثبَة ٍ … فَحِذْرَكَ، مِنْهُ، فَهْوَ غَضْبَانُ مُطْرِقُ
كَأَنَّ هِلاَلَ الأُفْقِ سَيْفٌ مُجَرَّدٌ … عَلَيْنَا بِهِ، وَالنَّجْمَ سَهْمٌ مُفَوَّقُ
أبادَ بنيهِ ظَالِماً غَيرَ راحمٍ … فَيَا عَجَبَا مِنْ وَالِدٍ لَيْسَ يُشْفِقُ
فَلا تبتئس بالأمرِ تَخشَى وُقوعَهُ … فَقَدْ يَأْمَنُ الإنْسَانُ مِنْ حَيْثُ يَفْرَقُ
فَمَا كُلُّ مَا تَهْوَاهُ يَأْتِيكَ بِالْمُنَى … وَلاَ كُلُّ مَا تَخْشَاهُ فِي الدَّهْرِ يَطْرُقُ
وكُن واثِقاً باللهِ فى كلِّ مِحنَة ٍ … فَلَلَّهُ أَوْلَى بِالْعِبادِ وَأَرْفَقُ