في القفر – إيليا أبو ماضي

سئمت نفسي الحياة مع الناس، … وملّت حتى من الأحباب

وتمشت فيها الملالة حتى … ضجرت من طعامهم والشراب

ومن الكذب لابسا بردة الصدق، … وهذا مسربلا بالكذاب

ومن القبح في نقاب جميل … ومن الحسن تحت ألف نقاب

ومن العابدين كلّ إله … ومن الكافرين بالأرباب

ومن الواقفين كالأنصاب … ومن الساجدين للأنصاب

ومن الراكبين خيل المعالي … ومن الراكبين خيل التصابي

والألى يصمتون صمت الأفاعي … والألى يهزجون هزج الذباب

صغرت حكمة الشيوخ لديها … واستخفّت بكلّ ما للشباب

قالت أخرج من المدينة للقفر … ففيه النجاة من أوصابي

وليك الليل راهي، وشموعي … الشهب، والأرض كلها محرابي

وكتابي الفضاء أقرأ فيه … سورا ما قرأتها في كتاب

وصلاتي الذي تقول السواقي … وغنائي صوت الصّبا في الغاب

وكؤوسي الأوراق ألقت عليها … الشمس ذوب النّضار عند الغياب

ورحيقي ما سال من مقلة الفجر … على العشب كاللّجين المذاب

ولتكحّل يد المساء جفوني … ولتعانق أحلامه أهدابي

وليقبّل فم الصباح جبيني … وليعطّر أريجه جلبابي

ولأكن كالغراب رزقي في الحقل ، … وفي السفح مجثمي واضطرابي

ساعة في الخلاء خير من الأعوام … تقضى في القصر والأحقاب

يا لنفسي فإنها فتنتي … بالحديث المنمّق الخلاّب

فإذا بي أقلى القصور ، وسكناها ، … وأهلى القصور ذات القباب

فجرت العمران تنفض كفّي … عن ردائي غباره وإهابي

وتركت الحنى وسرت وإياها … وقد ذهّب الأصيل الروابي

نهتدي بالضحى، فإن عسعس الليل … جعلنا الدليل ضوء الشهاب

وقضينا في الغاب وقتا جميلا … في جوار الغدران والأعشاب

تارة في ملاءة من شعاع … تارة في ملاءة من ضباب

تارة كالنسيم نمرح في الوادي، … وطورا كالجدول المنساب

في سفوح الهضاب والظلّ فيها، … ومع النور وهو فوق الهضاب

إنما نفسي التي ملت العمران … ملّت في الغاب صمت الغاب

فأنا فيه مستقل طليق … وكأني أدبّ في سرداب

علمتني الحياة في القفر أني ، … أينما كنت ، ساكن في التراب

خلت أني في القفر أصبحت وحدي … فإذا الناس كلّهم في ثيابي