سامراء – محمد مهدي الجواهري

ودَّعتُ شرخَ صِبايَ قبلَ رحيلِهِ … ونَصَلتُ منه ولاتَ حَينَ نُصولِهِ

وَنفَضتُ كفّيَ من شبابٍ مُخلِفٍ … إيراقهُ للعين مِثلُ ذبوله

وأرى الصِّبا عَجِلاً يَمُرُّ وإنني … ساعدتُ عاجلَهُ على تعجيله

سَعُدَ الفتى متقّبلاً مِن دهره … مقسومَه بقبيحهِ وجميله

وأظُنّني قد كنتُ أرْوَحَ خاطراً … بالخطبِ لو لم أُعنَ في تأويله

لكن شُغِفْتُ بأن أُقابلَ بينه … أبداً وبين خِلافه ومثيله

وَشَغَلتُ بالي والمصيبَةُ أنني … أجني فراغَ العُمرِ مِن مشغوله

يأسٌ تجاوزَ حَدَّه حتى لقد … أمسيتُ أخشى الشرَّ قبلَ حُلوله

وبَلُدْتُ حتى لا ألَذُّ بمُفْرحٍ … حَّذَرَ انتكاستهِ وخوفَ عُدوله

إيهٍ أحبَّايَ الذينَ ترعرعوا … ما بين أوضاحِ الصِّبا وحُجوله

إني وإنْ غَلبَ السلُّو صَبابتي … واعتضتُ عن نجم الهوى بأُفوله

لتَشوقُني ذكراكُمُ ويهُزُّني … طَربٌ إلى قالِ الشباب وقِيِله

أحبابَنا بين الفُرات تمتَّعوا … بالعيش بين مياهه ونخيله

وتذكَّروا كَلفَ امرئٍ متشوّقٍ … منزوفِ صبرٍ بالفراق ، قتيله

حرّانَ ، مدفونِ الميولِ ، وعنَدكم … إطفاءُ غُلَّتِه وبعثُ ميوله

حَييْتُ ” سامَرّا ” تحيَّةَ مُعجَبٍ … بروُاءِ مُتَّسِعِ الفِناء ظَليله

بَلدٌ تساوَى الحسنُ فيه ، فليلُهُ … كنهاره ، وضَّحاؤه كأصيله

ساجي الرياحِ كأنما حلَفَ الصَّبا … أن لا يمُرَّ عليه غيرُ عليله

طَلْقُ الضواحي كاد يُربي مُقفِرٌ … منه بنُزهتهِ على مأهوله

وكفاكَ من بلدٍ جَمالاً أنَّه … حَدِبٌ على إنعاش قلبِ نزيله

عَجَبي بزَهْوِ صُخوره وجباله … عَجَبي بمنحَدرَاته وسُهوله

بالماءِ منساباً على حَصبائه … بالشَّمسِ طالعةً وراء تُلوله

بالشاطئِ الأدنى وبَسطةِ رملِهِ … بالشاطئِ الأعلى وبَردِ مَقيله

بجماله ، والبدرُ يَملؤه سناً … بجلالهِ رهنَ الدُّجى وسُدوله

بالنهر فيَّاضَ الجوانبِ يزدهي … بالمُطْربَينِ : خريرهِ وصليله

ذي جانبْينِ ، فجانب مُتطامِنٌ … يقسو النسيمُ عليه في تقبيله

بإزاءِ آخَرَ جائشٍ متلاطمٍ … يَرغو إذا ما انصبَّ نحوَ مَسيله

فصلتهما ” الجُزُرُ ” اللِّطافُ نواتئاً … كلٌّ تحفَّزَ ماثلاً لعديله

وجرتْ على الماءِ القوارِبُ عُورضت … بالجري فهي كراسفٍ بكبوله

فإذا التَوت لمسيلهِ فكأنَّما … تبغي الوصولَ إليه قبلَ وصوله

وإذا نظرتَ رأيتَ ثَمَّةَ قارَباً … تَمتازُه بالضوء مِن قِنديله

أو صوتِ مِجدافٍ يُبينُ بوقعه … فوقَ الحصى عن شجوه وعويله

سادَ السكونُ على العوالم كُلَّها … وتَجلبب الوادي رِداءَ خموله

وتنبَّهتْ بين الصخورِ حَمامةٌ … تُصغي لصوت مُطارِحٍ بهديله

وأشاعَ شجواً في الضفاف ورقَّةً … إيقاظُ نُوتيًّ بها لزميله

ولقد رأيتُ فُويقَ دجلةَ مَنظراً … الَشِعرُ لا يقوى على تحليله

شَفَقاً على الماءِ استفاضَ شُعاعُه … ذَهَباً على شُطآنه وحُقوله

حتى إذا حكَم المغيبُ بدا له … شفقٌ يُحيطُ البدرَ حين مُثوله

فتحالفَ الشفقانِ ، هذا فائرٌ … صُعُداً وهذا ذائبٌ بنزوله

ثُمَّ استوى فِضّيُّ نُورٍ عابثٍ … بالمائِجَيْنِ : مِياههِ ورموله

فاذا الشواطئُ والمساحبُ والرُّبى … والشطُّ والوادي وكلُّ فُضوله

قمراءُ ، راقصةُ الأشعَّةِ ، جُلّلت … بخفيِّ سِرٍّ رائعٍ مجهوله

والجوُّ أفرطَ في الصفاءِ فلو جرى … نَفَسٌ عليه لَبانَ في مصقوله

هذي الحياةُ لِمِثلها يحنو الفتى … حِرصاً وإشفاقاً على مأموله

وإذا أسِفتُ لمؤسِفٍ فلأنَّه … خِصْبُ الثَّرى يُشجيكَ فرطُ مُحوله

قد كانَ في خَفْضِ النَّعيم فبالغتْ … كفُّ الليالي السودِ في تحويله

بَدَتِ القصورُ الغامراتُ حزينةً … من كلّ منهوبِ الفِناءِ ذليله

كالجيشِ مهزومَ الكتائبِ فلَّه … ظَفَرٌ ورَقَّ عدوَه لفلوله

” العاشقُ ” المهجورُ قُوّضَ رُكنُهُ … كالعاشق الآسي لفقدِ خليله

” والجعفريُّ ” ولم يقصِّررسمُهُ … الباقي برغُم الدَّهر عن تمثيله

بادي الشحوبِ تَكادُ تقرأ لوعةً … لنعيمه المسلوبِ فوقَ طلوله

وكأنَّما هو لم يجِدْ عن ” جعفرٍ ” … بدلآ يُسَرُّ به ولاً عن جِيله

فُضَّتْ مَجالسُهُ به وخلَوْنَ مِن … شعر ” الوليدِ بها ومن ترتيله

إن الفحُولَ السالفينَ تعهَّدوا … عصرَ القريضِ وأُعجبوا بفحوله

يتفاخرونَ بشاعرٍ فكأنَّما … تحصيلُ معنى الحُكْمِ في تحصيله

فجزَوْهُمُ حُلوَ الكلامِ وطرَّزوا … إكليلَ ربِّ المُلْك مِن إكليله

كانوا إذا راموا السكوتَ تذكَّروا … فَضلَ المليكِ الجمَّ في تنويله

من صائنٍ للنفس غيرِ مُذيلها … شُحُاً ومُعطي المالِ غيرِ مُديله

وإذا شَدَوا فكما تغنَّى طائرٌ … أثرُ النعيمِ يَبينُ في تهليله

ولقد شجتني عَبرةٌ رَقراقةٌ … حَيرانةٌ في العين عند دُخوله

إني سألتُ الدهرَ عن تخطيطهِ … عن سَطحه، عن عَرضه ، عن طُوله

فأجابني : هذي الخريبةُ صدرُه … والبلقعُ الخالي مَجرُّ ذيوله

وَسَلِ الرياحَ السافياتِ فانَّها … أدرى بكلِّ فروعه وأصوله

وتعلَّمَنْ أنَّ الزمانَ إذا انتحى … شُهُبَ السَّما كانت مداسَ خُيوله

مدَّت بنو العبَّاس كفَّ مُطاوِلٍ … فمشى الزمانُ لهم بكفِّ مَغوله

واجتاحَ صادقَ مُلكهِمْ لما طَغوا … بدعيِّ مُلكٍ كاذبٍ مَنحوله

وكذا السياسةُ في التقاضي عندَه … تسليمُ فاضلهِ الى مفضوله

خُلِّدْتِ سامراءُ ، لم أوصِلْكِ مِن … فَضْلٍ حَشَدتِ عليَّ غيرَ قليله

يا فرحةَ القلبِ الذي لم تتركي … أثراً لِلاعجِ همّه ودخيله

وافاكِ مُلتهِبَ الغليلِ وراح عن … مغناكِ يَحمَدُ منكِ بردَ غليله

أنعشتِهِ ونَفَيْتِ عنه هواجساً … ضايقْنَه ، وأثرتِ من تخييله

وصدقته أملاً رآكِ لِمثله … أهلاً فكنتِ ، وزدتِ في تأميله

هذا الجميلُ الغضُّ سوف يردُّه … شِعري إليكِ مُضاعفاً بجميله

ولقد غَلوتُ فكمْ يقلبي خاطرٌ … عَجزتْ مَعاني الشعر عن تمثيله

وَلطيفِ معنىً فيك ضاقَ بليدُها … بذكِّيهِ ، ودقيقُها بجَليله

ولعلَّ منقولَ الكلامِ محوَّلٌ … في عالَمٍ آتٍ إلى مَعقوله

فهُناكَ يتَّسِع التخلّصُ لامرِئٍ … من مُجمَل المعنى إلى تفصيله