ساعة مع البحتري في سامراء – محمد مهدي الجواهري

أسْدَى إليَّ بكَ الزَّمانُ صنيعا … فحمِدْتُ صيفاً طَيَّباً وربيعا

أجللتُ منظرَكِ البديع ومنظرٌ … أجللته لِمْ لا يكونُ بديعا

دَرَجَ الزمانُ بها سريعاً بعد ما … ناشدتُه ألا يمرَّ سريعا

قرَّتْ بمرآها العُيونُ وقرحةٌ … للعينِ ألا تُبصرَ المسموعا

ونعمتُ أُسبوعاً بها وسعيدةٌ … سَنَةٌ نعمتُ خلالهَا أسبوعا

ألفيتُ حسن الشاطئَيْنِ مرقرقاً … غضّاً وخِصْبَ الشاطئينِ مَريعا

وأضعتُ أحلامي وشرخَ شبيبتي … وطَلاقتي فوجدتُهُنَّ جميعا

صبحٌ أغرُّ وليلةٌ جذلانةٌ … بيضاءُ تهزأُ بالصباحِ سُطوعا

والبدرُ بالأنوارِ يملأُ دجلةً … زَهْواً ويبعثُ في النفوسِ خُشوعا

وترى ارتياحاً في الضِّفافِ وهِزَّةً … تعلو الرّمالَ إذا أجدَّ طُلوعا

وجرتْ على الحصباءِ دجلةُ فِضَّةً … صُهِرَتْ هناكَ فمُُوِّعتْ تمويعا

وكأنَّما سبكوا قواريراً بها … مضَّ السَّنا فتصدَّعتْ تصديعا

وترى الصخورَ على الجبالِ كأنَّما … لَبِسَتْ بهنَّ من الهجير دُروعا

دُورُ الخلائفِ عافها سُمَّارُها … وتقطَّعَتْ أسبابُها تقطيعا

درجتْ بساحتها الحوادثُ وانبرى … خَطْبُ الزمانِ لها فكان فظيعا

حتى شواطئُ دجلةٍ منسابةً … تأبى تُشاهد منظراً مفجوعا

أبَّنتُها مرئيَّةً ولطالما … غازلتُ منها حسنَها المسموعا

ولقد تُذَمُّ جلادةٌ في موقفٍ … للنفس أجملُ أن تكونَ جزوعا

قصرُ الخليفةِ جعفرٍ كيف اغتذى … بيد الحوادثِ فظَّةً مصفوعا

وكَمِ استقَرَّ على احتقار طبيعةٍ … لم تألُه التحطيمَ والتصديعا

ولقد بَكْيتُ وما البكاءُ بِمُرجِعٍ … مُلكاً بشهوةِ مالكيهِ بيعا

زُرْ ساحةَ السجنِ الفظيعِ تجدْ بهِ … ما يستثيرُ اللومَ والتقريعا

إن الَّذينَ على حساب سواهُمُ … حلبوا ملّذاتِ الحياةِ ضروعا

رفعوا القصورَ على كواهلِ شعبهِمْ … وتجاهلوا حقّاً له مشروعا

ساسوا الرعيةَ بالغرورِ سياسةً … لا يرتضيها من يسوسُ قطيعا

حتى إذا ما الشعبُ حرَّركَ باعه … فاذا همُ أدنى وأقصرُ بوعا

ووقفتُ حيثُ البحتريُّ ترقرقت … أنفاسُه فشفعتُهُنَّ دُموعا

أكبرتُ شاعرَ جعفرٍ ، وشعورُهُ … يستوجبُ الاكبارَ والترفيعا

ولَمَستُ في أبياتِه دَعةَ الصِّبا … ولداتهِ والخاطرَ المجموعا

ولئن تشابهتِ المنَاسبُ ، أو حكى … مطبوعُ شعري شعرَهُ المطبوعا

فلكَمْ تَخالَفُ في المسيلِ جداولٌ … فاضَتْ معاً وتفجرَّتْ ينبوعا

عَبثَ ” الوليد ” بشرخِ دهرٍ عابثٍ … وصَبا فنالَ من الصِّبا ما اسطيعا

ونما رفيعاً في ظلالٍ خلائفٍ … في ظلِّهمْ عاش القريضُ رفيعا

لا عن بيوت المال كان إذا انتمى … يُقصَى ولا عن بابهم مدفوعا

قَدَرُوا له قَدْرَ الشعورِ وأسرجوا … أبياتَهُ وسْطَ البيوتِ شموعا

ضيفَ العراق نعمتَ من خيراتهِ … وحَمِدْتَ فيه قرارةً وهجوعا

إنْ تُعْقَدِ الحَفلاتُ كنتَ مقدَّماً … أو تُنبرِ الأمراءُ كنتَ قريعا

وأظُنُ أنَّكَ لو نمتْكَ ربوعُهُ … لشكوتَ منه فؤادَكَ المصدوعا

ولكنتَ كالشعراءِ من أبنائه … ممَّنْ تُجوهلَ قدرُهُمْ فأُضيعا

لك في ” الَّتي ” راشَتْ جناحك رِفقةٌ … لولا جلادتُهم لماتوا جوعا