حافظ إبراهيم – محمد مهدي الجواهري

نَعوا إلى الشِعرِ حُراً كان يرعاهُ … ومَنْ يَشُقُّ على الأحرارِ مَنعاهُ

أخنى الزَّمانُ على نادٍ ” زها ” زَمناً … بحافِظٍ واكتسى بالحُزنِ مغناه

واستُدْرجَ الكوكَبُ الوضاءُ عن أُفُقٍ … عالي السَّنا يُحْسِرُ الأبصارَ مَرقاه

أعْززْ بأنَّا افتقَدناهُ فأعوزنا … وجهٌ طليقٌ وطَبعٌ خفَّ مجراه

وأنَّ ذاكَ الخفيفَ الروحِ يُوحشُه … بيتٌ ثقيلٌ على الأحياءِ مَثواه

ضيفٌ على رِمَمٍ شتَّى طبائعُها … ما كانَ يجمعُها حالٌ وإياه

أنَّ الذي هزَّ كلَّ الناس مَحضَرُهُ … لم يبقَ في الناس منه غيرُ ذكراه

نأت رعايَتُنا عنه وفارقَنا … فِراقَ مُحتَشمٍ فلْيَرْعَهُ الله

حوى التُرابُ لِساناً كُلُّهُ مُلَحٌ … ما كلُّ مُحتَرِفٍ للشِّرِ يُعطاه

للأريحيَّةِ مَنْشاهُ ومَصْدرُهُ … وللشَّجاوةِ والإيناسِ حَدّاه

جمُّ البَدائهِ سََهْل القولِ ريِّضُه … وطالما أعوزَ المِنطيقَ إبداه

جَلا القِراعُ الشبا منهُ ولطفَّهُ … طولُ التَّجارِبِ في الدُّنيا ونقَّاه

تخيَّر الكَلِمَ العالي فَسلَّطهُ … على القوافي فحَّلاها وحلاّه

ومَدَّها ببنَتِ الفِكرِ مُرسَلةً … تَرَسُّلَ السَّيلِ أدناهُ كأقصاه

من كلِّ مَعنىً لطيفٍ زاد رونَقَهُ … إبداعُ ” حافِظَ ” فيهِ فهو تيَّاه

فلو يُطيق القريضُ النُطقَ قابلةُ … بالشكرِ عن حُسن ما أسدى فأطراه

عرائسٌ من بنات الفكر حاملةٌ … مِن حافظٍ أثَراً حُلواً كسِيماه

وما الشُعورُ خيالُ المرءِ يَنْظِمهُ … لكنَّهُ قِطِعِاتٌ مِن سجاياه

أخو الحماسِ رقيقاً في مقاطعهِ … تكادُ تُلْمسُ نِيرانٌ وأمواه

وذو القوافي لِطافاً في تَسَلسُلها … ما شانَها عنَتٌ يوماً وإكراه

وابنُ السِنينَ نَقيَّاتٍ صحائفُها … أُُولاه فائضةٌ حُسناً وأُخراه

فانْ يكُنْ خُضِدت بالموتِ شوكتُهُ … أو نالَ وقعُ البِلى منهُ فعرّاه

فما تزالُ مَدى الأيامِ تُؤنسُنا … نظائرٌ مِن قوافيهِ وأشباه

شِعرٌ تُحِسُّ كأنَّ النفسَ تَعشَقُهُ … أو أنَّها اجتُذِبَتْ بالسِحر جرّاه

زانَتْ مواقِفَهُ جُنديَّةٌ كُسيَت … من الرزانهِ ما لمْ تُكْس لولاه

مشى بمصرَ فلم يَعثُر بها ورمى … مُحتلَّ مِصرَ فلم يُخطِئْهُ مَرماه

رِيعَ القريضُ بفذٍّ كانَ يملؤهُ … مِن الجميلينِ مَبناهُ ومَعناه

يُعطي لكلِّ مَقامٍ حقَّهُ ويَرى … حقّاً لسامعهِ لابُدَّ يَرعاه

قد يُوسِعُ الأمرَ تفصيلاً يُحتَّمُه … حالٌ وقد يَكتفي عنهُ بفَحواه

وقد يجيئُ بما لم يَجْرِ في خَلَدٍ … وقد يقولُ الذي لم تهوَ إلاّه

فمٌ من الذهب الابريزِ مَنطِقُهُ … جاءتْ تُعزّي به الأشعارَ أفواه

اليومَ يبكيهِ دامي القلبِ طارَحَهُ … بِدامياتِ قوافيهِ فواساه

وضيِّقُ الصدرِ بالأيام غالطَهُ … عنِ الحياةِ وما فيها فعزّاه

حَسْبُ الزمانِ وحِسبُ الناسِ مَنقصةً … أن طالَ من حافظٍ في الشِعر شكْواه

ما للزمانِ ونفسٍ ريعَ طائُرها … ألمْ تكنْ في غِنىً عنها رزاياه

ضَحيَّةَ الموتِ هل تهوى مَعاودَةً … لِعالمٍ كنتَ قَبلاً مِن ضَحاياه

يا ابنَ الكِنانهِ والأيامُ جائزةٌ … والدهرُ مُغْرَمةٌ بالحُرِّ بَلواه

لُقِّيتَ مِن نَكَدِ الدُّنيا ومحنتها … ما كنتَ لولا إباءٌ فيكَ تُكفاه

ما لذَّةُ العيشِ جَهلُ العَيشِ مَبدؤهُ … والهمُّ واسِطهُ ، والموتُ عُقباه

يا ابنَ الكِنانهِ ماذا أنتَ مُشتَمِلٌ … عليه ممَّا سَطا مَوتٌ فغَطَّاه

سِتّونِ عاماً أرتْكَ الناسَ كُنهَهَمُ … والدهرَ جوهرَهُ والعُمْرَ مَغزاه

وبَصَّرتكَ بأطباع يَضيقُ بها … صدرُ الحليم وتأباه مَزاياه

بَدا على نَفثَاتٍ منكَ خالدةٍ … عيشُ الأباة ونُعماهُ وغُمَّاه

وخَبَّرتنا القوافي عن أخي جَلَدٍ … صُلبِ الإرادةِ يُعْيي الدهرَ مأتاه

خاضَ الزمانَ وأبلاهُ مُمارسةً … لم يَخْفَ عنه خبيٌّ مِن ثناياه

وعَنْ مصارَعةِ الدُّنيا على نَشَبٍ … الحَالُ تُوجبهُ والنفسُ تأباه

وعن مواقفَ تُدمي القلبَ غُصَّتُها … لا المالُ يَدفعُ ذِكراها ولا الجاه

وعن أذايا يّهدُّ النفسَ مَحمِلُها … ويَستثَيرُك جانيها ومَرآه

إنَّا فَقدناهُ فقْدَ العيَنِ مُقلتها … أو فقْدَ ساعٍ إلى الهيجاءِ يُمناه

ما انفَكَّ ذِكرُ الرَّدى يجري على فمه … وما أمرَّ الرَّدى ، بل ما أُحيلاه

ومَنْ تُبَرِّحْ تَكاليفُ الحياةِ به … ويَلْمِسُ الرَّوْحَ في مَوتٍ تمنَّاه

إنّي تعشَّقتُ مِن قَبلِ المُصابِ به … بيتاً له جاء قبلَ الموتِ يَنعاه:

ودَّعتُهُ ودُموعُ العينِ فائضةٌ … والنَّفسُّ جياشةٌ والقَلب أواه