جمال الدين الأفغاني – محمد مهدي الجواهري
هَويِتَ لِنُصرةِ الحقّ السُهادا … فلولا الموتُ لم تُطِقِ الرُّقادا
ولولا الموتُ لم تَتْرُكْ جِهاداً … فَلَلْتَ به الظغاةَ ولا جِلادا
ولولا الموتُ لم تُفْرِحْ فُرادى … صعَقْتَهُمُ ، ولم تُحزِنْ سودا
ولولا الموتُ لم يَذهبْ حريقٌ … بيانعةٍ وقد بَلَغتْ حَصادا
وإنْ كانَ الحدادُ يَرُدُّ مَيتاً … وتَبلُغُ منه ثاكلةٌ مُرادا
فانَّ الشَّرقَ بينَ غدٍ وأمسٍ … عليكَ بِذِلَّةٍ لبِسَ الحِدادا
ترفَّعْ أيُّها النجم المُسَجَّى … وزِد في دارة الشَّرَفِ اتّقادا
ودُرْ بالفكر في خَلَدِ الليالي … وجُلْ في الكون رأياً مُستعادا
وكُنْ بالصَّمتِ أبلغَ منك نُطْقاً … وأورى في مُحاجَجةٍ زِنادا
فانَّ الموتَ أقصرُ قِيدَ باعٍ … بأنْ يَغتالَ فِكراً واعتقادا
جمالَ الدين ، يا رُوحاً عَليّاً … تنزَّلَ بالرسالة ثمَّ عادا
تجشَّمْتَ المهالكَ في عَسوفٍ … تجشَّمَهُ سواك فما استَقادا
طَريقِ الخالدينَ ، فمَنْ تَحامى … مصايرَهُمْ تَحاماه وحادا
كثير الرُعْبِ بالأشلاء ، غطَّتْ … مَغاورَهُ الجماجِمُ والوِهادا
جماجِمُ رائِدي شَرَفٍ وحقٍّ … تهاوَوا في مَجاهلهِ ارتْيادا
وأشباحُ الضحايا في طواهُ … على السارينَ تحتشِد احتشادا
وفوقَ طُروسه خُطَّتْ سُطورٌ … دمُ الأحرار كان لها مِدادا
شقَقْتَ فِجاجَهُ لم تخْشَ تَيْهاً … ومَذْئَبةً ، وليلاً ، وانُفرادا
لأِنَّكَ حاملٌ ما لا يُوازي … بقُوَّتهِ : العقيدةَ والفؤادا
وتختلِفُ الدُروبُ وسالكوها … وغايتُها ، دُنوّاً وابتعادا
ويختلفُ البُناةُ ، ورُبَّ بانٍ … بَنى مِن فِكرةٍ صَرْحاً وشادا
وأنت ازْدَدْتَ من سُمٍّ زعافٍ … تَذَوَّقَهُ سَواك فما استزادا
نضالِ المستبدِّ ، يَرى انكشافاً … عَمايتَه ، وعثرتَه سَدادا
إذأ استحلىَ غَوايتَه وأصغى … إلى المتزلّفِينَ له تمادى
خَشِيتَ اللهَ عن علمٍ ، وحقٌّ … إذا لم تَخشَ في الحقّ العبادا
وجَدْتَ اللذَّةَ الكُبرى فكانت … طريفَ الفِكرِ والهِمَمِ التِلادا
وأعصاباً تَشُدُّ على الرَّزايا … إذا طاشَتْ وتَغلِبُها اتئادا
ولمَّا كنتَ كالفجر انبلاجاً … ” وكالعنقاء تكْبُرُ أنْ تُصادا”
مَشَيْتَ بقلبِ ذي لبَدٍ هَصورٍ … ” تُعانِدُ من تُريدُ له العِنادا”
صليبَ العُودِ ، لم يَغمزْكَ خَوفٌ … ولم تَسهُلْ على التَرفِ انعقادا
ولم تَنزِلْ على أهواء طاغٍ … ولا عمَّا تُريدُ لمِا أرادا
ولم أرَ في الرجالِ كمُستَمِدٍّ … من الحقِّ اعتزازاً واعتدادا
وكان مُعسكرانِ : الظُلمُ يَطغى … ومظلومٌ ، فلم تَقفِ الحيِادا
ولم تحتجَّ أنَّ البَغْيَ جيشٌ … وأنَّ الزاحفينَ له فُرادي
ولا أنَّ اللياليَ مُحرِجاتٌ … وأنَّ الدَّهَر خصمٌ لا يُعادى
و أنَّ الأمرَ مرهونٌ بوقتٍ … ينادي حينَ يأْزَفُ لا يُنادى
مَعاذيرٌ بها ادَّرَعَتْ نُفوسٌ … ضعافٌ تَرهبُ الكُرَبَ الشِّدادا
تُريدُ المجدَ مُرتميا عليها … جَنىً غَضّاً تَلَقَّفُهُ ازدِرادا
جمالَ الدينِ كنتَ وكانَ شَرقٌ … وكانتْ شِرعةٌ تَهَبُ الجْهادا
وكانت جَنَّةٌ في ظِلِّ سيفٍ … حَمَى الفَردُ الذِمارَ به وذادا
وإيِمانٌ يقودُ الناسَ طَوعاً … إلى الغَمَراتِ فَتوىً واجتهادا
وناسٌ لا الحضارةُ دنَّسَتْهُمْ … ولا طالُوا مع الطَمَعِ امتِدادا
وكانت ” عُروةٌ وُثْقَى ” تُزَجَّى … لمنقَسِمينَ حُبّاً واتحادا
ونيَّةُ ساسةٍ بَسُطَتْ فبانت … ووجْهُ سياسةٍ جلَّى وكادا
وحُكْمٌ كالدَّجى عُريانُ صافٍ … فلم يُنْكِرْ ، إذا انتَسبَ ، السَّوادا
ولم يُدخِلْ من الألوانِ ظّلاً … يلوذُ به انتقاصاً وازْديادا
دَجَا قَسْراً وسادَ ، وكان شَهماً … صريحاً أنَّه بالرُّغمِ سادا
وجِئتَ ورُفقة لك كالدَّراري … لِضُلاَّلٍ بغَيْهَبِه ، رشادا
تَصُدُّ عُبابَهُ وجهاً لوجهٍ … وتَزْحَمُهُ انْعكاساً وَاطَّرادا
جمالَ الدينِ كنتَ وكانَ عهدٌ … سُقيتَ لما صمَدْتَ له العِهادا
نَما واشتطَّ واشتدَّتْ عُراه … وزادَ الصامدونَ لهُ اشتدادا
مشَتْ خمسونَ بعدَك مرْخياتٍ … أعِنَّتَها ، هِجاناً لا جِياداً
محَّملةً وسُوقاً من فُجورٍ … وشامخةً كَمُحصَنةٍ تهادى
تحوَّرَتِ السياسةُ عن مَداها … إلى أنأى مدىً وأقلَّ زادا
وباتَ الشرق ليلَتَه سَليماً … على حالينِ ما اختَلَفا مُفادا
على حُكْمين من شَفعٍ وَوتْرٍ … عُصارةُ كلّ ذلك أن ْ يُسادا
ولُطِّفَتِ الابادةُ ، فهو حُرٌّ … بأيِّ يَدٍ يُفَضِّلُ أنْ يُبادا
ومُدَّتْ إصْبَعٌ لذويهِ فيهِ … فعاثَتْ فوقَ ما عاثُوا فَسادا
فكَمْ في الشَّرقِ من بَلدٍ جريحٍ … تشَكِّى لا الجروحَ بَلِ الضِّمادا
تشَكَّى بَغيَ مُقتادٍ بغيضٍ … تأبَّى أنْ يُطاوعَه انقيادا
فكانتْ حِيَلةٌ أنْ يَمْتَطيهِ … رضيعُ لِبانه فبغى وزادا
صَدىً للأجنبيّ ، ورُبَّ قَفْرٍ … أعادَ صدىً فَسُرَّ بما أعادا
وكان أجلَّ من زُمَرٍ إذا ما … تجَّنى المُستَبيحُ ، بها تفادى
فكانوا منه في العَوْراتِ سِتراً … وكانوا فوق جمرتهِ رمادا
تروَّى من مطامعهِ وأبقى … لهم من سُؤر ما وَرَدَ ، الثمادا
وكان إذا تهضَّمهُ غريبٌ … أقامَ له القيامةَ والمعادا
فأسلَمَهُ الغريبُ إلى قَريبٌ … يسّخِرُهُ كما شاءَ اضطهادا
وكان الأجنبيُّ وقد تَولَّى … زمام الأمرِ واغتَصَبَ البلادا
يرى أدنى الحُقوقِ لهمْ عليه … مُساغَ النقد والكلِم المُعادا
فأضحوا يحسبونَ النقد فتحاً … لو اسطاعُوا لِما يَصِمُ انتِقادا
فبئسَ مُنىً لمصفودٍ ذليلٍ … لَوَ انَّ يَديه لم تضَعا الصِفادا
وبئسْ مَصيرُ مُفَترشينَ جمراً … تَمّنْيهم لو افترَشوا القَتادا
وكانوا كالزُّروعِ شََتْ مُحُولاً … فلمَّا استمْطرتْ مُطِرَتْ جرادا