تَأَوَّبَ طَيْفٌ مِنْ «سَمِيرَة َ» زَائرُ – محمود سامي البارودي

تَأَوَّبَ طَيْفٌ مِنْ «سَمِيرَة َ» زَائرُ … وَمَا الطَّيْفُ إلاَّ مَا تُرِيهِ الْخَوَاطِرُ

طَوَى سُدْفَة َ الظَّلْمَاءِ، وَاللَّيْلُ ضَارِبٌ … بِأرواقهِ ، والنَجمُ بِالأفقِ حائرُ

فيا لكَ مِن طيفٍ ألمَّ ودونَهُ … مُحِيطٌ منَ الْبَحْرِ الْجَنُوبِيِّ زَاخِرُ

تَخطَّى إلى َّ الأرضَ وَجداً ، وما لهُ … سِوَى نَزواتِ الشَوقِ حادٍ وزاجرُ

ألمَّ ، ولم يلبَث ، وسارَ ، وليتَهُ … أَقَامَ وَلَوْ طَالَتْ عَلَيَّ الدَّيَاجِرُ

تَحمَّلَ أهوالَ الظلامِ مُخاطِراً … وعَهدى بِمَن جادَت بهِ لا تُخاطِرُ

خُمَاسِيَّة ٌ، لَمْ تَدْرِ مَا اللَّيْلُ والسُّرَى … ولم تَنحَسِر عَن صَفحتيها السَتائرُ

عَقِيلَة ُ أتْرَابٍ تَوَالَيْنَ حَولَهَا … كما دارَ بالبدرِ النُجومُ الزَواهِرُ

غَوَافِلُ لا يَعْرِفْنَ بُؤْسَ مَعِيشَة ٍ … وَلا هُنَّ بالْخَطْبِ الْمُلِمِّ شَوَاعِرُ

تَعوَّدنَ خَفضَ العيشِ فى ظِلِّ والدٍ … رَحِيمٍ وَبَيْتٍ شَيَّدَتْهُ الْعَنَاصِرُ

فَهُنَّ كَعُنْقُودِ الثُّرَيَّا، تَأَلَّقَتْ … كَواكِبُهُ في الأُفْقِ، فهْي سَوَافِرُ

تُمثِلُها الذكرى لعينى ،كأنَّنى … إلَيْهَا علَى بُعْدٍ مِنَ الأَرض نَاظِرُ

فَطَوْراً إخَالُ الظَّنَّ حَقّاً، وَتَارَة ً … أهِيمُ، فَتَغْشَى مُقْلَتَيَّ السَّمَادِرُ

فيا بُعدَ ما بينى وبينَ أحبَّتى … ويا قُربَ ما التفَّت عليهِ الضَّمائر

ولَوْلاَ أَمَانِي النَّفْسِ وَهْيَ حَياتُهَا … لما طارَ لى فوقَ البسيطة ِ طائرُ

فإن تَكُنِ الأيامُ فرَّقنَ بيننا … فَكُلُّ امْرِىء ٍ يوْماً إلَى اللَّهِ صَائرُ

هِي الدَّارُ؛ ما الأَنْفَاسُ إلاَّ نَهَائِبٌ … لديها ، وما الأجسامً إلاَّ عقائرُ

إذا أحسَنتَ يوماً أساءت ضُحى غدٍ … فَإِحْسَانُهَا سيْفٌ عَلَى النَّاسِ جَائِرُ

تربُّ الفتى ، حتَّى إذا تمَّ أمرهُ … دَهَتْهُ، كَما رَبَّ الْبَهِيمَة َ جَازِرُ

لها تِرة ٌ فى كلِّ حى ّ ، وما لها … عَلَى طُول مَا تَجْني علَى الْخَلْق وَاتِرُ

كَثِيرة ُ أَلْوانِ الْوِدادِ، ملِيَّة ٌ … بأَنْ يَتَوَقَّاها الْقَرينُ الْمُعَاشِرُ

فَمن نَظرَ الدُنيا بِحكمَة ِ ناقدٍ … دَرَى أنَّها بينَ الأنامِ تُقامِرُ

صَبَرتُ على كُرهٍ لِما قَد أصابَنى … ومَن لم يَجد مندوحة ً فهوَ صابِرُ

وما الحِلمُ عِندَ الخطبِ والمرءُ عاجِزٌ … بِمُسْتَحْسَنٍ كَالْحِلْمِ والْمَرْءُ قَادرُ

ولكِن إذا قلَّ النصيرُ ، وأعوزَت … دواعِى المُنى فالصَبرُ فيهِ المَعاذِرُ

فَلا يَشمتِ الأعداءُ بى ، فلرُبَّما … وصلْتُ لِما أَرْجُوهُ مِمَّا أُحَاذِرُ

فَقَدْ يَسْتَقِيمُ الأَمْرُ بَعْدَ اعْوِجاجِهِ … وتنهَضُ بالمرءِ الجدودُ العواثِرُ

ولى أملٌ فى اللهِ تحيا بهِ المُنى … ويُشرِقُ وَجهُ الظَنِّ والخَطبُ كاشِرُ

وَطِيدٌ، يَزِلُّ الْكَيْدُ عَنْهُ، وتَنْقَضِي … مُجَاهَدَة ُ الأَيَّامِ وَهْوَ مُثَابِرُ

إذا المرءُ لم يَركَن إلى اللهِ فى الَّذى … يُحَاذِرُهُ مِنْ دَهْرِهِ فَهْوَ خَاسِرُ

وإنْ هُوَ لَمْ يصْبِرْ على ما أصَابَهُ … فَلَيْسَ لَهُ فِي مَعْرِضِ الْحَقِّ نَاصِرُ

ومَن لم يّذق حُلوَ الزمانِ وَمرهُ … فما هوَ إلاَّ طائشُ اللُّبِّ نافِرُ

وَلَوْلاَ تَكَالِيفُ السِّيادة ِ لَمْ يَخِبْ … جَبانٌ ، ولَم يَحو الفَضيلة َ ثائرُ

تقلُّ دواعِى النَفسِ وهِى َ ضعيفَة ٌ … وتَقوى همومُ القلبِ وهوَ مُغامِرُ

وكَيفَ يبينُ الفَضلُ والنَّقصُ فى الوَرى … إذا لَم تَكُن سَومَ الرِجالِ المَآثِرُ ؟

وَما حملَ السَّيْفَ الْكَمِيُّ لِزِينَة ٍ … ولكن لأمرٍ أوجبتهُ المفاخرُ

إذا لَم يكُنْ إلاَّ المعيشة َ مَطلبٌ … فكلُّ زهيدٍ يَمسكُ النَّفسَ جابِرُ

فَلَوْلاَ الْعُلاَ ما أَرْسَلَ السَّهْم نَازِعٌ … ولا شهرَ السيفَ اليمانى َّ شاهرُ

منَ العارِ أن يرضى الدنيَّة َ ماجدٌ … ويَقبلَ مَكذوبَ المُنى وهوَ صاغرُ

إذا كُنتَ تخشى كلَّ شئٍ منَ الردى … فَكُلُّ الَّذِي فِي الْكَوْنِ لِلنَّفْسِ ضائِرُ

فمِن صِحَّة ِ الإِنْسَانِ ما فِيهِ سُقْمُهُ … ومن أمنهِ ما فاجأتهُ المَخاطِر

على َّ طِلابُ العزِّ من مُستقرِّهِ … ولا ذَنبَ لى إن عارَضتنى المقادِرُ

فَمَا كُلُّ مَحْلُولِ الْعَرِيكَة ِ خَائِبٌ … ولاَ كُلُّ مَحْبُوكِ التَّرِيكَة ِ ظَافِرُ

فماذا عَسى الأعداءُ أن يتقوَّلوا … على َّ ، وعِرضى ناصِحُ الجيبِ وافِرُ ؟

فَلي فِي مَرَادِ الْفَضْلِ خَيْرُ مَغَبَّة ٍ … إذَا شَانَ حَيّاً بالْخِيَانَة ِ ذَاكِرُ

مَلَكْتُ عُقَابَ الْمُلْكِ وَهْيَ كَسِيرَة ٌ … وغادرتُها فى وَكرِها وهى َ طائرُ

ولو رُمتُ ما رامَ امرؤٌ بِخيانة ٍ … لَصبَّحنِي قِسْطٌ مِنَ الْمال غَامِرُ

ولكِنْ أَبَتْ نَفْسِي الْكَرِيمَة ُ سَوْأَة ً … تُعابُ بِهَا، والدَّهْرُ فِيهِ الْمعَايرُ

فلا تحسبنَّ المالَ ينفعُ ربَّهُ … إِذَا هُوَ لَمْ تَحْمَدْ قِرَاهُ الْعَشَائِرُ

فَقَدْ يَسْتَجِمُّ الْمَالُ وَالْمَجْدُ غَائِبٌ … وَقَدْ لاَ يَكُونُ الْمَالُ والْمَجْدُ حاضِرُ

ولَو أنَّ أسبابَ السِيادة ِ بالغنى … لكاثرَ ربَّ الفضلِ بالمالِ تاجرُ

فلا غَروَ أن حُزتُ المكارِمَ عارِياً … فَقَدْ يَشْهَدُ السَّيْفُ الْوَغَى وَهْوَ حاسِرُ

أنا المرءُ لا يثنيهِ عن دركِ العُلا … نَعِيمٌ، ولاَ تَعْدُو عَلَيْهِ الْمفَاقِرُ

قَئُولٌ وَأَحْلاَمُ الرِّجالِ عَوَازِبٌ … صَئُولٌ وأَفْوَاهُ الْمَنَايَ فَوَاغِرُ

فَلاَ أَنا إِنْ أَدْنَانِيَ الْوَجْدُ بَاسِمٌ … وَلاَ أَنَا إِنْ أَقْصَانِيَ الْعُدْمُ بَاسِرُ

فَمَا الْفَقْر إِنْ لَمْ يَدْنَسِ الْعِرْضُ فَاضِحٌ … وَلاَ الْمَالُ إِنْ لَمْ يَشْرُفِ الْمَرْءُ ساتِرُ

إذا ما ذُبابُ السَّيفِ لم يكُ ماضِياً … فحيلتهُ وصمٌ لَدى الحربِ ظاهِرُ

فإن كنتُ قد أصبحتُ فلَّ رَزيَّة ٍ … تقاسمها فى الأهلِ بادٍ وحاضِرُ

فكَم بطلٍ فَلَّ الزَّمانُ شباتَهُ … وكَمْ سَيِّدٍ دارتْ علَيْهِ الدَّوائِرُ

وأى ُّ حسامٍ لم تُصبهُ كلالَة ٌ ؟ … وأى ُّ جوادٍ لم تَخنهُ الحوافِرُ ؟

فَسَوْفَ يَبِينُ الْحقُّ يَوْماً لِنَاظِرٍ … وتنزو بِعوراءِ الحُقودِ السَّرائرُ

وَمَا هِيَ إِلاَّ غَمْرَة ٌ، ثُمَّ تَنْجلِي … غيابتُها ، واللهُ من شاءَ ناصِرُ

فَقَدْ حَاطَني في ظُلْمة ِ الْحَبْسِ، بعْدَمَا … تَرَامَتْ بأَفْلاَذِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرُ

فَمَهْلاً بَنِي الدُّنْيَا عَلَيْنَا، فَإِنَّنَا … إِلَى غَايَة ٍ تَنْفَتُّ فيهَا الْمَرائرُ

تطولُ بِها الأنفاسُ بُهراً ، وتلتوِى … على فَلكة ِ السَّاقينِ فيها المآزِرُ

هُنالِكَ يَعْلُو الْحَقُّ، وَالْحَقُّ واضِحٌ … ويَسفلُ كَعبُ الزُّورِ ، والزُّورُ عاثِرُ

وَعَمَّا قَلِيلٍ يَنْتَهِي الأَمْرُ كُلُّهُ … فَما أَوَّلٌ إِلاَّ وَيَتْلُوهُ آخِرُ