العاشق المخدوع – إيليا أبو ماضي

أبصرتها في الخمس و العشر … فرأيت أخت الرئم و البدر

عذراء ليس الفجر والدها … و كأنّها مولودة الفجر

بسّامة في ثغرها درر … يهفو إليها الشاعر العصري

و لها قوام لو أشبّهه … بالغصن باء الغصن بالفخر

مثل الحمامة في وداعتها … و كزهرة انّسرين في الطهر

مثل الحمامة غير أنّ لها … صوت الهزار و لفتة الصقر

شاهدتها يوما وقد جلست … في الرّوض بين الماء و الزهر

ويد الفتى ” هنري ” تطوّقها … فحسدت ذاك الطّوق في الخصر

و حسدت مقلته و مسمعه … لجمالها و كلامها الدرّي

أغمضت أجفاني على مضض … و طويت أحشائي على الجمر

و خشيت أنّ الوجد يسلبني … حلمي ، و يغلبني على أمري

فرجعت أدراجي أغالبه … باليأس آونة و بالصّبر

ثمّ انقضى عام و أعقبه … ثان و ذاك السرّ في صدري

فعجبت ، منّي كيف أذكرها … و قد انقضى حولان من عمري

خلت اللّيالي في تتابعها … تزري بها عندي فلم تزر

زادت ملاحتها فزدت بها … كلفا ، و موجدة على ” هنري “

و سئمت داري و هي واسعة … فتركتها و خرجت في أمر

فرأيت فتيان الحمى انتظموا … كالعقد ، أو كالعسكر المجر

يتفكّهون بكلّ نادرة … و على الوجوه علائم البشر

ساروا فأعجبني تدفّقهم … فتبعتهم أدري و لا أدري

ما بالهم ؟ و لأية وقفوا ؟ … لمن البناء يلوح كالقصر

أوّاه هذي دار فاتنتي … من قال ما للشمس من خدر

و عرفت من ” فرجين ” جارتها … ما زادني ضرّا على ضرّ

قد كان هذا يوم خطبتها … يا أرض ميدي يا سما خرّي

و رأيت ساعدها بساعده … فوددت لو غيّبت في قبر

و شعرت أن الأرض واجفة … تحتى ، و أنّ النار في صدري

و خشيت أنّ الوجد يسلبني … حلمي و يغلبني على أمري

فرجعت أدراجي أغالبه … اليأس آونة و بالصّبر

قالوا : الكنيسة خير تعزية … لمن ابتلي في الحبّ بالهجر

فنذرت أن أقضي الحياة بها … و قصدتها كيما أفي نذري

لازمتها بدرين ما التفتت … عيني إلى شمس و لا بدر

أتلو أناشيد النبيّ ضحى … و أطالع الإنجيل في العصر

حينا مع الرهبان ، آونة … وحدي ، و أحيانا مع الحبر

في الغاب فوق العشب مضطجعا … في السّفح مستندا إلى الصّخر

في غرفتي ، و الريح راكدة … بين المغارس ، و الصّبا تسري

حتى إذا ما القلب زايلة … تبريحه ، و صحوت من سكري

و سلوتها و سلوت خاطبها … و ألفت عيش الضنك و العسر

عاد القضاء إلى محاربتي … ورجعت للشكوى من الدهر

في ضحوة وقف النسيم بها … متردّدا في صفحة النهر

كالشاعر الباكي على طلل … أو قاريء حيران في سفر

و الشمس ساطعة و لامعة … تكسو حواشي النهر بالتبر

و الأرض حالية جوانبها … بالزّهر من قان و مصفرّ

فكأنّها بالعشب كاسية … حسناء في أثوابها الخضر

و علا هتاف الطير إذ أمنت … بأس العقاب و صوله النسر

تتلو على أهل الهوى سورا … ليست بمنظوم و لا نثر

يحنو الهزار على أليفته … و يداعب القمريّة القمري

و انساب كلّ مصفّق عذب … و اهتزّ كلّ مهفهف نضر

فتذكّرت نفسي صبابتها … ما أولع المهجور بالذّكر

أرسلت طرفي رائد فجرى … و جرى على آثاره فكري

حتى دوى صوت الرئيس بنا … فهرعت و الرهبان في إثري

و إذا بنا نلقى كنيستنا … بالوافدين تموج كالبحر

و إذا ” بها ” و إذا الفتى هنري … في حلّة بيضاء كالفجر

تمشي بين ذي أدب … حلو ، و بين مليحة بكر

رفع الرئيس عليها يده … و أنا أرى و يدي على صدري

يا قلب ذب يا مهجتي انفطري … يا طرف فض بالأدمع الحمر

أغمضت أجفاني على مضض … و طويت أحشائي على الجمر

و خشيت أنّ الوجد يسلبني … حلمي ، و يغلبني على أمري

فرجعت أدراجي أغالبه … باليأس آونة و بالصبر

و خرجت لا ألوي على أحد … و رضيت بعد الزّهد بالكفر

أشفقت من همّي على كبدي … و خشيت من دمعي على نحري

فكلفت بالصهباء أشربها … في منزلي ، في الحان ، في القفر

أبغي الشفاء من الهموم بها … فتزيدني وقرا على وقر

و تزيدني و لعا بها و هوى … و تزيدني حقدا على هنري

قال الطبيب و قد رأى سقمي : … لله من فعل الهوى العذري

ما لي بدائك يا فتى قبل … السحر محتاج إلى سحر

و مضى يقلّب كفّه أسفا … و لبثت كالمقتول في الوكر

ما أبصرت عيناي غانية … إلاّ ذكرت إلى الدمى فقري

و سئمت داري و هي واسعة … فتركتها و خرجت في أمر

فرأيتها في السوق واقفة … و دموعها تنهلّ كالقطر

في بردة كاللّيل حالكة … لهفي على أثوابها الحمر

فدنوت أسألها وقد جزعت … نفسي ، وزلزل حزنها ظهري

قالت : قضى هنري فقلت : قضى … من كاد لي كيدا و لم يدر

لا تكرهوا شرّا يصيبكم … فلربّ خير جاء من شرّ

رهفا هواها بي فقلت لها : … قد حلّ هذا الموت من أسري

قالت : و من أسري فقلت : إذن … لي أنت ؟ قالت : أنت ذو الأمر

فأدرت زندي حول منكبها … و لثمتها في النحر و الثّغر

و شفيت نفسي من لواعجها … و تأرت بالتصريح من سرّي

ثمّ انثنيت بها على عجل … باب الكنيسة جاعلا شطري

و هناك باركني و هنّأني … من هنّأوا قبلي الفتى هنري

من بعد شهر مرّ لي معها … أبصرت وضح الشيب في شعري

ما كنت أدري قبل صحبتها … أنّ المشيب يكون في شهر

فكرت في هنري و كيف قضى … فوجدت هنري واضح العذر

يا طالما قد كنت أحسده … و اليوم أحسده على القبر