أنا هو – إيليا أبو ماضي

كانت قبيل العصر مركبة … تجري بمن فيها من السّفر

ما بين منخفض و مرتفع … عال ، و بين السّهل و الوعر

و تخطّ بالعجلات سائرة … في الأرض إسطارا و لا تدري

كتبت بلا حبر و عزّ على … الأقلام حرف دون ما حبر

سيّارة في الأرض ما قتئت … كالطّير من وكر إلى وكر

تأبى و تأنف أن يلمّ بها … تعب ، و أن تشكو سوى الزّجر

حملت من الركاب كلّ فتى … حسن الرّواء و كلّ ذي قدر

يتحدّثون فذاك عن أمل … آن ، و ذا عن سالف العمر

يتحدّثون و تلك سائرة … بالقوم لا تلوي على أمر

فكأنّما ضربت لها أجلا … أن تلتقي و الشمس في خدر

حتى إذا صارت بداحية … ممدودة أطرافها صفر

سقطت من العجلات واحدة … فتحطّمت إربا على الصّخر

فتشاءم الركّاب و اضطربوا … مما ألمّ بهم من الضّر

و تفرّقوا بعد انتظامهم … بددا و كم نظم إلى نثر

و الشّمس قد سالت أشعّتها … تكسو أديم الأرض بالتّبر

و الأفق محمرّ كأنّ به … حنقا على الأيّام و الدّهر

قد كان بين الجمع ناهدة … الثديين ذات ملاحة تغري

تبكي بكاء القانطين و ما … أسخى دموع الغادة البكر

و قفت و شمس الأفق غاربة … تذري على كالورد ، كالقطر

شمسان لولا أنّ بينهما … صلة لما بكتا من الهجر

و تدير عينيها على جزع … كالظّبي ملتفتا من الذّعر

و إذا فتى كالفجر طلعته … بل ربما أربى على الفجر

وافى إليها قائلا عجبا … ممّ البكاء شقيقة البدر ؟

قالت أخاف اللّيل يدهمني … ما أوحش اظلماء في القفر

و أشدّ ما أخشاه سفك دمي … بيد الأثيم اللّصّ ذي الغدر

” هنري ” اللّعين و ما الفتى هنري … إلاّ لبن أمّ الموت لو تدري

رصد السبيل فما تمرّ به … قدم و لا النسمات إذ تسري

وا شقوتي إنّ الطريق إلى … سكني على مستحسن النكر

إنّي لأعلم إنّما قدمي … تسعى حثيثا بي ” القبر

قال الفتى هيهات خوفك لن … يجديك شيئا ربّة الطهر

فتشجهي و عليّ فاتّكلي … فأنا الذي يحميك من هنري

قالت أخاف من الخؤون على … هذا الشباب الناعم النّضر

فأجابها لا تجزعي و ثقي … أنّي على ثقة من النّصر

عادت كأن لم يعرها خلل … تخد القفار سفينة البرّ

و اللّيل معتكر يجيش كما … جاشت هموم النّفس في الصدر

فكأنّه الآمال واسعة … و البحر في مدّ و في جزر

و كأنّ أنجمه و قد سقطت … دمع الدّلال و ناصع الدّر

و البدر أسفر رغم شامخة … قد حاولت تطويه كالسّر

ألقى أشعّته فكان لها … لون اللّجين و لؤلؤ الثّغر

فكأنّه الحسناء طالعة … من خدرها أو دمية القصر

و كأنّما جنح الظّلام جنى … ذنبا فجاء البدر كالغدر

و ضحت مسالك للمطيّة قد … كانت شبيه غوامض البحر

فغدت تحاكي السّهم منطلقا … في جريها و الطيف إذ يسري

و القوم في لهو و في طرب … يتناشدون أطايب الشّعر

حتى إذا صارت بمنعرج … و قفت كمنتبه من السّكر

فترجّلت ” ليزا ” و صاحبها … و مشت و أعقبها على الأثر

و استأنفت تلك المطيّة ما … قد كان من كرّ و من فر

مشت المليحة و هي مطرقة … ما ثمّ من تيه و لا كبر

أنّى تتيه و قد أناخ بها … همّ و بعض الهمّ كالوقر

لم تحتسي خمرا و تحسبها … ممّا بها نشوى من الخمر

في غابة تحكي ذوائبها … في لونها و اللّف و النّشر

ضاقت ذوائبها فما انفجرت … إلاّ لسير الذّئب و النمر

كاللّيلة الليلاء ساجية … و لربّ ليل ساطع غرّ

قد حاول القمر المنير بها … ما حاول الإيمان في الكفر

تحنو على ظبي و قسورة … أرأيتم سرين في صدر ؟

صقر وورقاء ، و من عجب … أن تحتمي الورقاء بالصّقر

هذا و أعجب أنّها سلمت … منه على ما فيه من غدر

ظلّت تسير و ظلّ يتبعها … ما نمّ من إثم و لا وزر

طال الطريق و طال سيرها … لكنّ عمر اللّيل في قصر

حتّى إذا سفر الصّباح و قد … رفع الظّلام و كان كالسّتر

و الغاب أوشك أن يبوح بها … و به ، بلا حذر ، إلى النّهر

نظرت إليه بمقلة طفحت … سحرا ووجه فاض بالبشر

قالت له لم يبق من خطر … جمّ نحاذره و لا نذر

أنظر فإنّ الصّبح أوشك أن … يمحو ضياء الأنجم الزّهر

و أراه دبّ إلى الظّلام فهل … هذا دبيب الشّيب في الشّعر

و أسمع ، فأصوات الطيور علت … بين النّقا و الضال و السّدر ؟

قال الفتى أو كنت في خطر ؟ … قالت له عجبا ألم تدر ؟

فأجابها ما كان في خطر … من كان صاحبه الفتى هنري

فتقهقرت فزعا فقال لها … لا تهلعي واصغي إلى حرّ

ما كنت بالشّرير قطّ و لا … الرّجل الذي يرتاح للشّرّ

لكنّني دهر يجوز على … دهر يجوز على بني الدّهر

بل إنّني خطر على فئة … منها على خطر ذوي الضّر

قتلوا أبي ظلما فقتلهم … عدل و حسبي العدل أن يجري

لا سلم ما بيني و بينهم … لا سلم بين الهرّ و الفأر

سيرون في الموت منتقما … لا شافع في الأخذ بالثّأر

تالله ما أنساك يا أبتي … أبدا و لا أغضي على وتر

قالت لقد هيّجت لي شجنا … فإليك ما قد كان أمري

بعث المليك إلى أبي فمضى … و أخي معا توّا إلى القصر

فإذا أبي في القبر مرتهن … و إذا أخي في ربقة الأسر

يا ساعديّ بترتما ويد … الدهر الخؤون أحق بالبتر

نابي و ظفري بتّ بعدكما … وحدي بلا ناب و لا ظفر

و يلاه من جور الزّمان بنا … و الويل منه لكلّ مغترّ

و كأنّنا و الموت يرتع في … أرواحنا مرعى و مستمري

لما انتهت و إذا به دهش … حيران كالمأخوذ بالسّحر

شاء الكلام فناله خرس … كلّ البلاغة تحت ذا الحصر

و كذلك الغيداء أذهلها … ميل إلى هذا الفتى الغرّ

قالت أخي و الله … و اقتربت

و إذا به ألقى عباءته … برح الخفاء بها عن الجهر

صاحت أخي فيكتور وا طربي … روحي ، شقيقي ، مهجتي ، ذخري

و تعانقا ، فبكى فرحا … إنّ البخار نتيجة الحرّ

و تساقطت في الخدّ أدمعها … كالقطر فوق نواضر الزّهر

قل للألي يشكون دهرهم … لا بدّ من حلو و من مرّ

صبرا إذا جلل أصابكم … فالعسر آخره إلى اليسر