أم القرى – إيليا أبو ماضي
أبصرتها ، و الشمس عند شروقها … فرأيتها مغمورة بالنار
و رأيتها عند الغروب غريقه … في لجّة من سندس و نضار
و رأيتها تحت الدجى ، فرأيتها … في بردتين : سكينة ووقار
فتنبّهت في النفس أحلام الصبى … و غرقت في بحر من التّذكار
نفسي لها من جنّة خلّابة … نسجت غلائلها يد الأمطار
أنّى مشيت نشقت مسكا أزفرا … في أرضها و سمعت صوت هزار
ذات الجبال الشّامخات إلى العلا … يا ليت في أعلى جبالك داري
لأرى الغزالة قبل سكان الحمى … و أعانق النّسمات في الأسحار
لأرى رعاتك في المروج و في الربى … و الشّاء سارحة مع الأبقار
لأرى الطيور الواقعات على الثرى … و النحل حائمة على الأزهار
لأساجل الورقاء في تغريدها … و تهزّ روحي نفحة المزمار
لأسامر الأقمار في أفلاكها … تحت الظّلام إذا غفا سمّاري
لأراقب ” الدلوار ” في جريانه … و أرى خيال البدر في ” الدلوار “
بئس المدينة إنّها سجن النّهى … و ذوي النّهى ، و جهنّم الأحرار
لا يملك الإنسان فيها نفسه … حتّى يروّعه ضجيج قطار
وجدت بها نفسي المفاسد و الأذى … في كلّ زاوية و كلّ جدار
لا يخدعنّ الناظرين برجها … تلك البروج مخابيء للعار
لو أنّ حاسد أهلها لاقى الذي … لاقيت لم يحسد سوى ” بشّار “
غفرانك اللّهم ما أنا كافر … فلم تعذّب مهجتي بالنّار ؟
لله ما أشهى القرى و أحبّها … لفتى بعيد مطارح الأفكار
إن شئت تعرى من قيودك كلّها … فانظر إلى صدر السّماء العاري
و امش على ضوء الصّباح ، فإن خبا … فامش على ضوء الهلال السّاري
عش في الخلا تعش خليّا هانئا … كالطّير … حرا ، كالغدير الجاري
عش في الخلاء كما تعيش طيوره … الحرّ يأبى العيش تحت ستار
شلّال ” ملفرد ” لا يقرّ قراره … و أنا لشوقي لا يقرّ قراري
فيه من السيف الصقيل بريقه … و له ضجيج الجحفل الجرّار
أبدا يرش صخوره بدموعه … أتراه يغسلها من الأوزار ؟
فاذا تطاير ماؤه متناثرا … أبصرت حول السفح شبه غبار
كالبحر ذي التّيار يدفع بعضه … و يصول كالضرغام ذي الأظفار
من قمّة كالنهد ، أيّ فتى رأى … نهدا يفيض بعارض مدرار ؟
فكأنّما هي منبر و كأنّه … ” ميراب ” بين عصائب الثوّار
من لم يشاهد ساعة و ثباته … لم يدر كيف تغطرس الجبّار
ما زلت أحسب كلّ صمت حكمة … حتّى بصرت بذلك الثرثار
أعددت ، قبل أراه ، وقفة عابر … لاه فكانت وقفة استعبار ..
يا أخت دار الخلد ؛ يا أم القرى ، … يا ربّة الغابات و الأنهار
لله يوم فيك قد قضّيته … مع عصبة من خيرة الأنصار
نمشي على تلك الهضاب ودوننا … بحر من الأغراس و الأشجار
تنساب فيه العين بين جداول … و خمائل و مسالك و ديار
آنا على جبل مكين راسخ … راس ، و آنا فوق جرف هار
تهوي الحجارة تحتنا من حالق … و نكاد أن نهوي مع الأحجار
لو كنت شاهدنا نهرول من عل … لضحكت منّا ضحكة استهتار
الريح ساكنة و نحن نظنّنا … للخوف مندفعين مع إعصار
و الأرض ثابتة و نحن نخالها … تهتزّ مع دفع النسيم السّاري
مازال يسند بعضنا بعضا كما … يتماسك الروّاد في الأسفار
ويشدّ هذا ذاك من أزراره … فيشدّني ذيّاك من أزراري
حتى رجعنا سالمين و لم نعد … لو لم يمدّ الله في الأعمار
و لقد وقفت حيال نهرك بكرة … و الطير في الركنات و الأوكار
متهيّبا فكأنّني في هيكل … و كأنّه سفر من الأسفار
ما كنت من يهوى السكوت و إنّما … عقلت لساني رهبة الأدهار
مرّ النسيم به فمرّت مقلتي … منه بأسطار على أسطار
فالقلب مشتغل بتذكاراته … و الطرف مندفع مع التيّار
حتى تجلّت فوق هاتيك الربى … شمس الصباح تلوح كالدّينار
فعلى جوانبه وشاح زبرجد … و على غراربه و شاح بهار
لو أبصرت عيناك فيه خيالها … لرأيت مرآة بغير إطار
يمّمته سحرا و أسراري معي … و رجعت في أعماقه أسراري ..
إنّي حسدت على القرى أهل القرى … و غبطت حتّى نافخ المزمار
ليل و صبح بين إخوان الصّفا … ما كان أجمل ليلتي و نهاري