ألقت مراسيها الخطوبْ – محمد مهدي الجواهري
أَلْقَتْ مراسِيَها الخُطوبُ … وتَبَسَّمَ الزمنُ القَطوبُ
وانجاب عن صُبحٍ رضىٍّ … ذلك اللّيلُ الغَضوب
وادّال مِنْ صَدَأِ الحديد … على الثرّى أرَجٌ وطِيب
ومشى ربيعٌ للسَّلام … بِه تفتّحتِ القلوب
وتطامن الألمُ الحبيسُ … وأفرخَ الأملُ الرحيب
فجرٌ صدوق ربَّ حربٍ … رِبْحُها فجرٌ كذوب
الآنَ يَقْبَعُ في مهانَتِهِ … لتنتفضَ الشّعوب
وَحْشٌ تقلمتِ المخالبُ … منه واختفتِ النُّيُوب
مشتِ القصيدة للقصيدَةِ … يصرعُ الكَسِلَ الدؤوب
وتلّمس الدّرنَ الحكيمُ … وشخَّصَ الداءَ الطبيب
وتلاقتِ الأجيالُ في … جيلٍ هو النَّغَمُ الرتيب
جيلٌ توضحت المعالمُ … مِنْهُ وانجلتِ الغُيوب
وجرتْ على خير المقاييس … المحاسنُ والعيوب
فالمستظامُ ” المستغَلُّ هو … الحسيب ، هو النسيب
والمستقيمُ هو المحكَّمُ … والصريحُ هو اللبيب
والمنطوي كبتاً يشد على … الضميرِ هو المريب
ومنزّهُ الآراءِ عن … تأويلِهِنّ هو الصليب
والمكتوي بلواذع الألم … العميقِ هو الأديب
ربّىَ القرونَ بكلّ حْجرٍ … طّيبٍ نِعمَ الربيب
شابتْ مفارقُهمُّ وأزمَنَ … لا يهِمُّ ولا يَشيب
ايام ” رسطاليس ” كانَ … بُعَيْدَ مولدِهِ يهيب
والسمُّ إذ ” سقراطُ ” يَجْرَعُهُ … ويحلِفُ لا يتوب
إذ قال للملأ العظيمِ … وكأسُهُ فيها شبوب:
” إني أكولٌ للحِمام … على مرارتِهِ شَروب”
أهلاً ، فانّكِ لا تُخيفين … العقيدةَ ، يا شَعُوب
وخيال ” أفلاطون ” والجُمْهور ، … والحكمُ الأريب
ما عابه أن ضيم فيه … ” الرقُ ” وامتُهِنَ ” الجليب “
إن العقولَ تكاملٌ … من يُخطِ ينفعْ من يُصيِب
وتبارت الأجيال تنجح … بالرسالة ، أو تخيب
عصرٌ خصيبٌ بالكفاحِ … وآخرٌ منهُ جديب
شرِقٌ بأعوادِ المشانِقِ … أو بمذبحةٍ خصيب
يجري النعيمُ به وتَزْدحِمُ … العظائِمُ والكُروب
بازاء وَجْهٍ ناضرٍ … ألفٌ تلوحُّه السُّهوب
ومواكبُ الأحرار في … صَخَبِ الطُّغاةِ لها دبيب
وعواصفُ الظلم الفطيع … لها رُكودٌ أو هبوب
ومَعينُ فكرٍ في مَعينِ … دمٍ يَصُبّ ، ولأنضوب
ومشرّدون على المبادئ … حُقِّروا فيها وعِيبوا
سُدَّتْ مسالِكُهُمْ فما … ضاقتْ بمذهبِهمْ ثقوب
ضمنَ النعيمَ إنابةٌ … وأبى التحّررُ أن يُنيبوا
يتلقّفُ الأضواء نَجْمٌ … شعَّ من نجمٍ يَغيب
” فأبو العلاء ” على نواميسٍ … مهرّأةٍ كئيب
ويهين ” فولتير ” النظام … وبالمشرع يستريب
وتعهد ” الاوباشَ ” – زولا … فانجلى ” الوحشُ ” النجيب
فإذا به غير المواربِ … حين يَكُثُرُ من يروب
وإذا به وهو الكريب … يُثيرُ نَخْوَتَهُ الكريب
وإذا بأشتاتِ الطُيوبِ … يَلُمُّها هذا الجنيب
هذا المُهان لأنّهُ … من نِعمةٍ خاوٍ سليب
ولأنَّ مشربَه حثالاتٌ … ومطعَمَهُ جشيب
ولأنّه ذو مِعصم … لم يُزْهِهِ الحلقُ الذهيب
ولأنه في الأكثرينَ … الجائعينَ له ضروب
ولأنه بين ” الصدورِ ” … المجرمينَ هو الكُعوب
جيل تعاوَره الطلوعُ … بما يُبشِّرُ – والغروب
يطفو ويحُجُبهُ – إلى … أمدٍ – من البغي الرسوب
حتى تلقَّفَهُ ” لنينُ ” … وصنْوُهُ البطلُ المَهيب
والعاكفون عليه أمّاتٌ، … وشبانٌ ، وشيب
فإذا به عبلُ السواعدِ … لا يزاحِمُهُ ضريب
تعنوا له الجّلى ويقصُر … عنده اليومُ العصيب
بالشعب تدعَمُهُ الجيوشُ … وتدعمُ الجيُشَ الشُّعوب
والرايةُ ” الحمراءُ ” تحتَ … ظلالِها تمشى القلوب
قالوا ” السلام ” فراح يستبقُ … البعيدَ به القريب
ودَعْوا ، فخف مجاوبٌ … وثوى صريعٌ لا يجيب
وتوثب العاني وأعوزَ … مُثخناً فيه الوثوب
طرح الأسيرُ قيودَهُ … وهفا لموطنِه الغريب
وتعطّرتْ بشذا اللقاءِ … ونفحةِ اللُّقيْا دُروب
في كلِّ بيتٍ بسمةٌ … كدراءُ أو دَمعٌ مشوب
غلب ابتسامَ الآيبين … بكاؤهم من لا يؤوب
رفَّت على أعشاشها … أرواحُ هائمةٍ تلوب
ذُعرٌ تخطفها الفراق … ومسَّهاً منه لغوب
ومشى . من ” القبر ” الرهيب … خيالُ مُحَترِبٍ يجوب
غطّى معالَمهُ شجاً … وتوحّشٌ ، ودمٌ صبيب
أصغى فَألْهَبَ سمعَه … من ” هامة ” الجدَثِ النعيب
وتمطتِ الأنقْاضُ عن … وجهٍ يؤمِّلُهُ حبيب
عن ساعدٍ ألوى على … جيدٍ كما اختلف الصّليب
وفمٍ مَراشِفُه ، للثم … أليفِها شوقا تذوب
وضمائرُ ” الأجداث ِ” تشكو … ما جنى البشَرُ العجيب
ورمائمُ الأنقاضِ ، مما … استوعبت ، فيها شحوب
والنار تحلف .. من حصيد … لهيبها ذُعِرَ اللهيب
والحوتُ يَضْمَنُ رزقَه … بحرٌ بها فيه خصيب
للوحشِ مأدبةٌ عليها … ما يَلَذُّ وما يَطيب
وكواسر العِقبانِ يزهيها … من الجثث النصيب
ماذا تريد : حواصل … ملأى ومنقارٌ خضيب
والدود يسأل مقلةً … تدمى وجمجمة تخوب
هذي المطاعم : أيُّ طاهٍ … شاءها ؟ أهي الحروب؟
من مُبْلِغُ الثّاوينَ تُعوِلُ … عندهم ريحٌ جَنوب
والمفردَين عليهم … من كلِّ والفةٍ رقيب
والطفلُ يسأل من أبيه … أهكذا يَلِجُ المشيب؟
والكاعبُ الحسناءُ جفَّ … بنحرِها نَفَسٌ رطيب
واستنزَفَ الحِلْمَ الرغيبَ … بصدرها جُرحٌ رغيب
إنَّ الرياشَ المستجدّ … لكُمْ تَنُمُّ به الطيوب
والبيتَ يُنعشه رنينُ العودِ ، … والطفلُ اللَعوب
والدهرُ لم يبرح عليه من … الّصبا ثوبٌ قشيب
والأرض يُرقصها الشروقُ ، … كما عهدتم ، والغروب
وعلى الربيعِ غضارة … وعلى الأراكَةِ عندليب
والشمس يستُرُ وجهَها … بالغيم يُمْسِكُ أوْ يصوب
والخافقاتُ العاطفاتُ … بكم يُعِذَبُها الوجيب
ألقتْ مراسِيها الخطوب … وتبسمَّ الزمن القَطوب