أطِل مكثاً – محمد مهدي الجواهري

عسى أنْ لا يطولَ بكَ الوُقوفُ … وأنْ يَعتَجَّل الزمنُ الرَّسيفُ

وأنْ ينجابَ عنكَ غُبارُ بُؤسٍ … يَضيقُ به مُحيَّاك الأسيف

أقِمْ كتِفَيْكَ لا يُثْقِلْكَ ذُلْ … ولا يشمَتْ بكَ القَصْرُ المُنيف

ولا يَقُلِ السَّريُّ هنا شقيٌّ … يَضيقُ بذُلِّ وَقْفَته الوصيف

تقدَّمْ إنَّ خلفَكَ راسفاتٍ … جماهيراً يضِجُّ بها الرَّصيف

صُفوفاً للسُجونِ بها تُعَبَّا … إذا أزِفَتْ ، وتنتَظِمُ الصُفوف

وأجنِحةً وإن طُويَتْ ففيها … على الأجيالِ ، قادِمةً ، رفيف

أطِلْ مُكثاً فانَّكَ عن قريبٍ … ستَنْقُّصُ في الضَّحايا أو تُضيف

وطُفْ دَهْراً فقد كرَّتْ دهورٌ … على الدُّنيا ، وأحرارٌ تطوف

ولم يَبْرَحْ بحيثُ نزلتَ ضيفاً … يُنيخُ الرَّحْلَ حُرٌّ مستضيف

هُنا الرأيُ العنيدُ أقامَ سَدّاً … عليه البغيُ – والفِكرُ الحصيف

ولا تخجَلْ فحيثُ وقفتَ ظلَّتْ … إلى غاياتِها تقفُ الأُلوف

ومِنْ حيثُ احتُجزِتَ مشى طليقاً … يَهُّزُّ الكونَ جبارٌ عَصوف

وأولاْءِ الذينَ لهمْ وجوهٌ … تُحَبِّبُ ، أو تُعَطِّفُ ، أو تخيف

وأجفانٌ ترِفُّ على عُيونٍ … تغورُ كما تَغوَّرَتِ الكهوف

وأسمالٌ لهمْ منها فِراشٌ … يُلَمُّ بها الثَّرى ولَهُمْ شُفوف

همُ المتقّحِمون الدَّهْرَ بأساً … به مِن وقعِ أرجُلِهمْ وجيف

فلا يُخذَلْ بمظهرِكَ الأليفُ … ولا يَطْمَعْ بِرُفقتكَ ” العريف “

أطِلْ مكثاً فسوفَ يُزاحُ ليلٌ … تَلُفّكَ منه والدُّنيا سُجوف

ومِنْ هذي الكُوى سيُطِلُّ فجرٌ … ضَحوكٌ يملأ الدُّنيا كَشوف

ولم تَزَلِ الدُّنى من ألفِ ألفٍ … يُصرِّفُ من أعنَّتها ” الرَّغيف “

تمرَّغَتِ الخدودُ مُصَعَّراتٍ … به ، واستُرْغِمتْ منها الأنوف

وظلَّ ابنُ ” المطاحِنِ ” مشمَخِراً … عليه الهامُ من فَزعٍ عُكوف

يدورُ الفِكرُ جباراً عنيداً … بحيثُ يدورُ والقلَمُ الرَّهيف

يُقِضُّ مضاجعَ الباغينَ منه … لكلِّ منامةٍ طيفٌ يطوف

وأني عرَّسوا أسرى إليهم … يُطيلُ عذابَهمْ وجهٌ مُخيف

تَخافُ شُذاةَ غَضبَتهِ أُلوفٌ … وتستجدي مودَّتهُ ألوف

وتُستاقَ الجيوشُ مُسَخَّراتٍ … لها من خوفِ زحفتهِ زُحوف

وكم جرَتِ الدّماءُ ، لها هَديرٌ … على حبَّاتِه وبها نزيف

وكم ألوى بها هذا النَّحيفُ … وهذا المستبِدُّ بنا العنيف

سَلِ التأريخَ كم زخَرَتْ شُجونٌ … بدفَّته وكمْ شُحِنَتْ حُتوف

وكم غادى ربيعَ الفكرِ فيه … من النَّزَّعاتِ عابرةً خريف

وكمْ ألقى على حيٍّ نزيلٍ … غُبارَ كِفاحهِ حيُّ خَلوف

وهلْ بالرَّغْمِ من هذا وهذا … تأبَّتْ منه ، دانيةً ، قُطوف

وهلْ دهرٌ أتى لمْ يَسْرِ فيه … يفيء ظِلالَهُ فِكرٌ وَريف

ولمْ تسحَبْ به الخطَرات ذيلاً … له في مسمعِ الدُّنيا حَفيف

أطِلْ مكثْاً إلى يومٍ تُوقّي … به كفَّيكَ ، أو تُلوى كُفوف

ودَعْ رُسْغَيهِما للقَيدِ نَهباً … لِنابَيه بلحمهِما صَريف

فمِنْ تأريخِكَ الألِقِ المدَّمى … تَبينُ بهذه النُقَطِ الحُروف

ومُلْكُ الدَّهرِ أنتَ بما توفّي … من الألمِ الذبيحِ وما تُعيف

ولَسْتَ مُخَّيراً في زمهريرٍ … تُشَتَي ، أو بجاحمةٍ تَصيف

ولا في أنْ يِمِسَّ ذويكَ ضُرٌّ … يَحيقُ بهمْ ومَظْلَمةٌ تَحيف

ولا آيِّ المصايرِ يحتويهمْ … وأيِّ نوىً تعاوَرهُمْ قَذوف

ولا أيِّ الجنينِ تُدِرُّ أمٌّ … رَءومٌ في مراضِعها رَءوف

ولا أيِّ الأكُفِّ بها تهاوى … ولا أيِّ السُمومِ لها تَديف

أطِل مكثاً فلمْ يَبْرَحْ أنيقٌ … رَشيقٌ في تأطّرهِ ظريف

يَتيهُ بحيثُ تَلتحِمُ الرَّزايا … عليكَ ، بحيثُ تَلْتَحِمُ السُقوف

مَشى فتعجَّبَ ” الطاووسُ ” منه … فقد ألوى بِمشيتهِ الزَّفيف

كأنْ لم تَضوِ إخوتَهُ سِياطٌ … ولمْ تَتحَدَّ أهلَهمُ الصُروف

بلى : وكأنَّ بُؤْسَهُمُ تليداً … له ولأهلهِ مَجْدٌ طَريف

أطِلْ مكثْاً إلى يومٍ تَلاقى … عليكَ بساحةِ الألمِ الصُفوف

أطِلْ مكثاً : وفاخِرْ أنْ خصماً … عَسوفاً خَصْمُهُ بغيٌ عسوف

ونَصِّبْ مِنْ جبينكَ فاللَّيالي … تُحاولُ ان تُخَوِّفَ مَنْ يُخيف

عسى أنْ لا يطولَ بكَ الوقوفُ … ومهما طالَ فالدُّنيا ظُروف