حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا – المتنبي
حُشاشةُ نَفسٍ وَدّعتْ يوْمَ وَدّعوا … فَلَمْ أدرِ أيّ الظّاعِنَينِ أُشَيِّعُ
أشاروا بتَسْليمٍ فَجُدْنَا بأنْفُسٍ … تَسيلُ مِنَ الآماقِ وَالسَّمُّ أدْمُعُ
حَشَايَ على جَمْرٍ ذَكيٍّ مِنَ الهَوَى … وَعَيْنايَ في رَوْضٍ من الحسنِ تَرْتَعُ
وَلَوْ حُمّلَتْ صُمُّ الجِبالِ الذي بِنَا … غداةَ افترَقْنا أوْشكَتْ تَتَصَدّعُ
بمَا بينَ جَنبيّ التي خاضَ طيْفُهَا … إليّ الدّياجي وَالخَلِيّونَ هُجّعُ
أتَتْ زائِراً ما خامَرَ الطّيبُ ثَوْبَها … وكالمِسْكِ مِن أرْدانِها يَتَضَوّعُ
فما جلَسَتْ حتى انثَنَتْ توسعُ الخُطى … كَفاطِمَةٍ عن دَرّها قَبلَ تُرْضِعُ
فَشَرّدَ إعظامي لَها ما أتَى بهَا … مِنَ النّوْمِ والْتَاعَ الفُؤادُ المُفَجَّعُ
فَيَا لَيْلَةً ما كانَ أطْوَلَ بِتُّهَا … وَسُمُّ الأفاعي عَذْبُ ما أتَجَرّعُ
تذلّلْ لها وَاخضَعْ على القرْبِ والنّوَى … فَما عاشِقٌ مَن لا يَذِلّ وَيَخْضَعُ
وَلا ثَوْبُ مَجدٍ غيرَ ثوبِ ابنِ أحمدٍ … عَلى أحَدٍ إلاّ بلُؤمٍ مُرَقَّعُ
وَإنّ الذي حابَى جَديلَةَ طَيِّىءٍ … بهِ الله يُعطي مَنْ يَشاءُ وَيَمْنَعُ
بذي كَرَمٍ مَا مَرّ يَوْمٌ وشَمْسُهُ … على رَأسِ أوْفى ذِمّةً منه تَطْلُعُ
فأرْحامُ شِعْرٍ يتّصِلْنَ لَدُنّهُ … وَأرْحامُ مالٍ ما تَني تتقطّعُ
فتًى ألْفُ جُزْءٍ رَأيُهُ في زَمَانِهِ … أقلُّ جُزَيْءٍ بعضُهُ الرّأيُ أجمَعُ
غَمامٌ عَلَيْنا مُمْطِرٌ لَيْسَ يُقشِعُ … وَلا البَرْقُ فيهِ خُلَّباً حينَ يَلْمَعُ
إذا عُرِضَتْ حَاجٌ إلَيْهِ فَنَفْسُهُ … إلى نَفْسِهِ فِيها شَفيعٌ مُشَفَّعُ
خَبَتْ نارُ حَرْبٍ لم تَهِجْها بَنانُهُ … وَأسْمَرُ عُرْيانٌ مِنَ القِشرِ أصْلَعُ
نَحيفُ الشَّوَى يَعدو على أُمّ رَأسِهِ … وَيحفى فيَقوَى عَدْوُهُ حينَ يُقطَعُ
يَمُجُّ ظَلاماً في نَهارٍ لِسانُهُ … وَيُفْهِمُ عمّن قالَ ما ليسَ يُسمَعُ
ذُبابُ حُسامٍ منهُ أنجَى ضَرِيبَةً … وَأعْصَى لمَوْلاهُ وذا منهُ أطْوَعُ
فَصيحٌ متى يَنطِقْ تجدْ كلّ لَفظَةٍ … أُصُولَ البَرَاعاتِ التي تَتَفَرّعُ
بكَفّ جَوَادٍ لَوْ حَكَتْها سَحابَةٌ … لما فاتها في الشّرْقِ والغَرْبِ موْضِعُ
ولَيسَ كبَحرِ الماءِ يَشتَقُّ قعرَهُ … إلى حَيثُ يَفنى الماءُ حوتٌ وَضِفدعُ
أبَحْرٌ يَضُرّ المُعْتَفينَ وطَعْمُهُ … زُعاقٌ كبَحرٍ لا يَضُرّ وَيَنْفَعُ
يَتيهُ الدّقيقُ الفِكْرِ في بُعدِ غَوْرِهِ … وَيَغْرَقُ في تَيّارِهِ وَهْوَ مِصْقَعُ
ألا أيّها القَيْلُ المُقيمُ بمَنْبِجٍ … وهِمّتُهُ فوقَ السِّماكَينِ تُوضَعُ
ألَيْسَ عَجيباً أنّ وَصْفَكَ مُعْجِزٌ … وَأنّ ظُنُوني في مَعاليكَ تَظْلَعُ
وَأنّكَ في ثَوْبٍ وَصَدْرُكَ فيكُما … على أنّه من ساحةِ الأرْضِ أوْسَعُ
وقَلْبُكَ في الدّنْيا ولوْ دَخلَتْ بنَا … وبالجنّ فيهِ ما درَتْ كيفَ ترْجعُ
ألا كُلّ سَمْحٍ غيرَكَ اليَوْمَ باطِلٌ … وكلّ مَديحٍ في سِواكَ مُضَيَّعُ