مَضَت أَشهُرٌ نُذِرَت لِلمَطَر – الياس أبو شبكة

مَضَت أَشهُرٌ نُذِرَت لِلمَطَر … وأظلم فيها المسا وَالسَحَر

وَأَقبَلَ نُوّارُ عُرسُ الطَبيعَةِ … يَضحَكُ في وَرَقاتٍ الشَجَر

يُدَغدِغُ بِالطَلِّ عُشبَ الحُقولِ … وَيطبع أَلوانه في الزَهَر

وَيَبني عَلى الهَضَباتِ مَتاحِفَ … تَسخَرُ من هَذَيانِ البَشَر

كَأَنَّ عَباقِرَةَ الجِنِّ فيها … سَكَنَّ وَعَلَّقنَ تِلكَ الصُوَر

فَخَفَّ الشَبابُ نَدِيَّ الحَياةِ … يَستَقبِلُ الحُلُمَ المُنتَظَر

عَلى ثَغرِهِ بَسَماتُ الرَبيعِ … وَفي قَلبِهِ بَسَماتٌ أُخَر

وَفي يَومِ عيدٍ نقيِّ السَماءِ … كَأَنَّ السَما صَفحَةٌ من سُوَر

أُطلَّ شَفيقٌ عَلى الهَضَباتِ … فَراءَ الشَبابَ عَلَيها اِنتَشَر

وَأَبصَرَ غَلواءَ بَينَ الزُهورِ … كَحَوّاءَ بَينَ شَهيِّ الثَمَر

تُسَرِّحُ في عَدنِها نَظَراتٍ … عَرَفنَ أَزاهيرَ خَيرٍ وَشَر

وَقَد لَبِسَت ثَوبَها الزَنبَقِيَّ … عَلَيهِ نَسيجٌ بِلَونِ الخِضَر

وَأَلقَت عَلى العُشبِ جِسماً هَزيلاً … كَغُصنٍ من الياسمين اِنكَسَر

فَخَفَّ اِلَيها وَفيهِ عَذابٌ … بَدا مِنه في مُقلَيته أَثَر

وَقالَ لَقَد خَلَعَ الحَقلُ عَنهُ … رداءَ الشِتاء وَغطّى الحَجَر

وَأَلقى عَلَيه الرَبيعُ وِشاحاً … جَمالُ الطَبيعَةِ فيهِ انحَصَر

فَهلّا خَلَعتِ رداءَ اللَيالي … وَأَلبَستِ روحَكِ ثَوبَ البُكَر

وَهَلّا تَشَبَّهتِ بِالياسِمين … فَما كادَ يُحجبُ حَتّى ظَهَر

لَقَد غَسَلَت بَسَماتُ الزُهورِ … ذُنوبَ الشِتاء الكَفيفِ البَصَر

وَعادَ العَفافُ الى الهَضَباتِ … فَفي كُلِّ غَرسٍ فُؤادٌ غَفَر

فَقالَت أُحاوِلُ أَن أَتَناسى … زَماناً مَضى وَخَيالاً عَبَر

فَقالَ وَماذا يُمَثِّلُ هذا الخَيالُ … فَقالَت غَراماً عَثَر

فَقالَ وَقد جَحَظَت مُقلَتاهُ … وَهذا فَقالَت حَبيباً غَدَر

وَهذا الحَبيبُ غَفَرتُ لَهُ … وَيَعفو إِلهُك عَمّا بَدَر

غَفَرتُ كَما غَفَرت في الرَبيعِ … زُهورُ الرُبى لِشتاءٍ كَفَر

وَلكِنَّ بي نَدَماً كَاللَّهيبِ … يُريني الحَياةَ خِلافَ الشَرَر

وَكان النَسيمُ يَهزُّ الغُصونَ … فَتنشرُ في الجَوِّ عِطرَ الزُهور

وَلَمّا أَفقنَ اِعتَرَفنَ بِها … وَقد هَزَّهُنَّ الضَميرُ الطَهور

وَكان المَساءُ عَلى الهَضَباتِ … يَنفِثُ أَشباحَهُ في فُتور

وَشَمسُ المَغيب تُعيرُ الظِلالَ … أَلوانَها في مَطاوي الصُخور

فَقالَ شَفيقٌ وَفي قَلبه … رَجاءٌ يَموتُ وَحبٌّ يَثور

عَشِقتكِ يا غَلوَ عِشقاً نَما … شَقيَّ الرؤى في شَواطىءِ صُور

وَكنتِ من الداءِ في نَشوَةٍ … تُريكِ الحَياةَ ظَلاماً وَنور

جَهِلتِ الهَوى فَنَكَرتِ الرَبيعَ … وَقد تَنكُرينَ نُمُوَّ البُذور

وَمَن لَم يُقَدَّر له أَن يَشمَّ … يَنكر حَتّى أَريجَ العُطور

فَقالَت صَدَقتَ وَلكِنَّني … أُحِسُّ بِقَلبي جَفافَ الجُذور

فَأَنتَ تَرى في الرَبيع الجَمالَ … وَأُبصِرُ اَزهارَهُ كَالبُثور

وَتُبصِرُ في الزَهرِ لَونَ الحَياةِ … وَأُبصِرُ في الزَهرِ لَونَ القُبور