مثالك من طيف الخيال المعاود – البحتري
مِثَالُكَ مِنْ طَيْفِ الخَيَالِ المُعَاوِدِ، … ألَمّ بِنَا مِنْ أُفْقِهِ المُتَبَاعِدِ
يُحَيّي هُجُوداً مُنْتَشِينَ مِنَ الكَرَى، … وَمَا نَفْعُ إهْدَاءِ السّلاَمِ لِهَاجِدِ
إذا هيَ مالَتْ للعِنَاقِ تَعَطّفَتْ، … تَعَطُّفَ أُمْلُودٍ، منَ البَانِ، مائدِ
إذا وَصَلَتْنَا لمْ تَصِلْ عَنْ تَعَمّدٍ، … وإنْ هَجَرَتْ أبدَتْ لَنَا هَجرَ عامِدِ
تُقَلّبُ قَلْباً مَا يَلينُ إلى الصّبَا، … وَمَنْزُورَ دَمعٍ عن جَوَى الحبّ جامد
تَمَادَى بها وَجدي، وَمُلّكَ وَصْلَهَا … خَليُّ الحَشَا، في وَصْلِها جِدّ زَاهِدِ
وَمَا النّاسُ إلاّ وَاجِدٌ غَيرُ مالِكٍ … لِمَا يَبتَغي، أوْ مَالِكٌ غَيرُ وَاجِدِ
سَقَى الغَيثُ أكنافَ الحِمَى مِنْ مَحَلّةٍ … إلى الحِقْفِ من رَملِ اللوى المُتَقاوِدِ
وَلاَ زَالَ مُخْضَرٌّ منَ الرّوْضِ يَانِع … عَلَيهِ، بمُحْمَرٍّ من النَّورِ جاسِدِ
يُذَكّرُنَا رَيّا الأحِبّةِ، كُلّمَا … تَنَفّسَ في جُنْحٍ مِنَ اللّيلِ بَارِدِ
شَقَائِقُ يَحمِلْنَ النّدَى، فكأنّهُ … دُمُوعُ التّصَابي مِنْ خُدودِ الخَرَائِدِ
وَمِنْ لُؤلُؤٍ في الأُمحُوَانِ مُنَظَّمٍ، … عَلى نُكَتٍ مُصْفَرّةٍ، كالفَرَائِدِ
كأنّ جَنى الحَوْذانِ، في رَوْنَقِ الضّحَى، … دَنانيرُ تبرٍ مِنْ تُؤَامٍ وَفَارِدِ
رِبَاعٌ تَرَدّتْ بالرِّيَاضِ، مَجُودَةٌ … بكُلّ جَديدِ الماءِ عَذبِ المَوَارِدِ
إذا رَاوَحَتْهَا مُزْنَةٌ بَكَرَتْ لَهَا … شآبيبُ مُجْتَازٍ عَلَيْهَا، وَقَاصِدِ
كأنّ يَدَ الفَتحِ بنِ خَاقَانَ أقْبَلَتْ … تَليهَا بتِلْكَ البَارِقَاتِ الرّوَاعِدِ
مَلِيّاً، إذا ما كانَ بادىءَ نِعْمَةٍ، … بكَرّ العَطَايَا البَادئَاتِ العَوَائِدِ
رَأيتُ النّدَى أمْسَى شقيقاً مُنَاسِباً … لأخْلاَقِهِ، دونَ الحَليفِ المُعَاقِدِ
تَلَفّتَ فَوْقَ القَائِمِينَ، فَطَالَهُمْ، … تَشَوُّفَ بَسّامٍ إلى الوَفْدِ قاعِدِ
جَهيرُ الخِطَابٍ يَخْفِضُ القَوْمُ عنده … مَعَارِيضَ قَوْلٍ كالرّياحِ الرّوَاكِدِ
يَخُضُونَ بالتّبجِيلِ أطْوَلَهُم يَداً، … وأظْهَرَهُمْ أكْرُومَةً في المَشاهِدِ
وَلَمْ أرَ أمثَالَ الرّجَالِ تَفاوَتَتْ … إلى الفَضْلِ حتّى عُدّ ألْفٌ بوَاحِدِ
وَلاَ عَيبَ في أخْلاقِهِ، غَيرَ أنّهُ … غَرِيبُ الإسَى فيها قَلِيلُ المُسَاعِدِ
مَكَارِمُ هُنّ الغَيْظُ بَاتَ غَليلُهُ … يُضَرَّمُ في صَدْرِ الحَسُودِ المُكايِدِ
وَلَنْ تَستَبِينَ الدّهْرَ مَوْضِعَ نِعْمَةٍ، … إذا أنتَ لمْ تُدْلَلْ عَلَيها بحاسِدِ
كَفَى رأيُهُ الجُلّى، وَألقى سَمَاحُهُ … نَفَاقاً على عِلْقٍ مِنَ الشِّعْرِ كاسِدِ
وإنّ مَقَامِي، حَيثُ خَيّمتُ، مِحنةٌ، … تُخَبّرُ عَنْ فَهْمِ الكِرَامِ الأجاوِدِ
وكاْئِنْ لهُ في ساحَتي منْ صَنِيعَةٍ، … قَطَعْتُ لَهَا عُقْلَ القَوَافي الشّوَارِدِ
وإنّي لَمَحْقُوقٌ ألا يَطُولَنِي … نَداهُ، إذا طَاوَلْتُهُ بالقَصَائِدِ
يَحُكْنَ لَهُ حَوْكَ البُرُودِ لزِينَةٍ، … وَيَنْظِمْنَ عَنْ جَدوَاهُ نَظمَ القَلائِدِ
وَحَسْبُ أخي النُّعمى جَزَاءً إذا امتطى … سَوَائِرَ مِنْ شِعْرٍ على الدّهرِ خالِدِ
مَلَكْتُ بهِ وِدّ العِدى، وَأجَدّ لي … أوَاصِرَ قُرْبَى في الرّجَالِ الأباعِدِ
جَمَالُ اللّيَالي في بَقَائِكَ، فَليَدُمْ … بَقاؤكَ في عُمْرٍ عَلَيْهِنّ زَائِدِ
وَمُلّيتَ عَيْشاً مِن أبي الفَتحِ، إنّهُ … سَليلُ العُلا، وَالسّؤدَدِ المُتَرَافِدِ
مَتى مَا يَشِدْ مَجداً يَشِدْهُ بهِمّةٍ … تَقَيّلَ فيها ماجِداً بَعْدَ مَاجِدِ
وإنْ يَطّلِبْ مَسْعَاةَ مَجدٍ بَعيدَةً، … يَنَلْهَا بِجَدٍّ أرْيَحيٍّ وَوَالِدِ
كَما مُدّتِ الكَفُّ المُضَافُ بَنانُها … إلى عَضُدٍ، في المَكْرُمَاتِ، وَسَاعِدِ
يَسُرّكَ في هَدْيٍ إلى الرّشدِ ذاهِبٍ، … وَيُرْضِيكَ في هَمٍّ إلى المَجْدِ صاعِدِ
لَهُ حَرَكَاتٌ مُوجِبَاتٌ بِأنّهُ … سَيَعْلُو، علو البدر بين الفراقد
مَوَاعِدُ لِلأيّامِ فيهِ، وَرَغْبَتِي … إلى الله في إنجازِ تِلْكَ المَوَاعِدِ
أأجْحَدُكَ النَّعْمَاءَ، وهيَ جَليلَةٌ، … وَمَا أنَا للبِرّ الخَفيّ بِجَاحِدِ
مَتَى ما أُسَيِّرْ في البِلادِ ركَائبي، … أجِدْ سائقي يَهْوِي إلَيكَ، وَقَائِدِي
وأكرَمُ ذُخْرِي حُسْنُ رَأيِكَ، إنّهُ … طَرِيفي الذي آوِي إلَيهِ، وَتَالِدِي