حلفت لها بالله يوم التفرق – البحتري
حَلَفْتُ لهَا بالله، يَوْمَ التّفَرّقِ، … وَبالوَجْدِ مِنْ قَلبي بِها المُتَعَلِّقِ
وَبالعَهْدِ ما البَذْلُ القَليلُ بضَائعٍ … لَدَيّ، ولا العَهدُ القَديمُ بمُخلِقِ
وأبثَثْتُها شكوَى أبانَتْ عنِ الجَوَى، … وَدَمعاً متَىَ يَشهَدْ بِبَثٍّ يُصَدَّقِ
وَإنّي لأخشاها عَليّ، إذا بَنتْ، … وَأخشَى عَلَيْهَا الكاشِحِينَ وأتّقي
وإنّي، وإنْ ضَنّتْ عليّ بِوُدّها، … لأرْتَاحُ مِنْهَا للخَيَالِ المُؤرِّقِ
يَعزُّ عَلَى الوَاشِينَ، لَوْ يَعْلَمُونَها، … لَيَالٍ لَنَا نَزْدادُ فيها، وَنَلْتَقي
فَكَمْ غُلّةٍ للشّوْقِ أطْفأتُ حَرّها … بطَيفٍ متى يَطرُقْ دُجَى اللّيلِ يَطرُقِ
أضُمُّ عَلَيْهِ جَفْنَ عَيْني تَعَلّقاً … بِهِ، عندَ إجلاءِ النّعاسِ المُرَنِّقِ
أجِدَّكَ ما وَصْلُ الغَوَاني بمَطمَعٍ، … ولا القَلْبُ من رِقّ الغَوَانِي بِمُعْتَقِ
وَدِدْتُ بَيَاضَ السّيفِ يَوْمَ لَقَينَني … مَكانَ بَيَاضِ الشَّيبِ كَانَ بمَفْرِقِي
وَصَدَّ الغَوَاني عِندَ إيمَاضِ لِمّتي، … وَقَصّرْنَ عَن لَبّيكَ ساعةَ مَنطقي
إذا شِئْتَ ألاّ تعذُلَ الدّهرَ عاشِقاً … عَلى كَمَدٍ من لَوْعَةِ الحُبّ فاعشَقِ
وَكُنتُ متى أبْعُدْ عنِ الخُلِّ أكتَئبْ … لَهُ، ومَتى أظعَنْ عَنِ الدّارِ أشْتَقِ
تَلَفّتُّ مِن عُلْيَا دِمَشقَ، ودونَنَا … للُبْنَانَ هَضْبٌ كالغَمامِ المُعَلَّقِ
إلى الحِيرَةِ البَيْضَاءِ فالكَرخِ بَعدَما … ذَمَمتُ مَقامي بينَ بُصرَى وَجِلِّقِ
إلى مَعْقِلَيْ عزّي وَدَارَي إقَامَتي، … وَقَصْدِ التفَاتي في الهَوَى، وَتَشَوُّقي
مَقَاصِيرُ مَلْكٍ أقْبَلَتْ بوُجوهِهَا، … إِلى مَنظَرٍ من عَرْضِ دِجلَةَ مُونقِ
كأنّ الرّياضَ الحُوَّ يُكسَينَ حَوْلَها … أفَانينَ من أفْوَافِ وَشْيٍ مُلَفَّقِ
إذا الرّيحُ هَزّتْ نَوْرَهُنّ تَضَوّعَتْ … رَوَائِحُهُ مِنْ فَارِ مِسْكٍ مُفَتَّقِ
كأنّ القِبَابَ البِيضَ، والشّمسُ طلقَةٌ … تُضَاحِكُها، أنْصَافُ بَيضٍ مفََّلَّقِ
وَمنْ شَرَفَاتٍ في السّماءِ، كَأنّها … قَوَادِمُ بِيضَانِ الحَمامِ المُحَلِّقِ
رِبَاعٌ منَ الفَتْحِ بنِ خَاقَانِ لم تزَلْ … غنًى لعَديمٍ، أو فِكاكاً لمُوْثَِقِ
فَلا الهاربُ اللاّجي إلَيها بمُسْلَمٍ، … ولا الطّالِبُ المُمْتَاحُ منهَا بمُخفِقِ
يَحُلُّ بهَا خِرْقٌ، كأنّ عَطَاءَهُ … تَلاَحُقُ سَيلِ الدِّيمَةِ المتُخَرِقِ
تَدَفُّقُ كَفٍّ بالسّماحةِ ثَرّةٍ، … وإسْفَارُ وَجْهِ بالطّلاَقَةِ مُشرِقِ
تَوَالَتْ أيَادِيهِ عَلَى النّاسِ، فاكَتَفى … بها كُلُّ حَيٍّ مِنْ شآمٍ وَمُعْرِقِ
فكَمْ حَقَنَتْ في تُغلِبَ الغُلبِ من دمٍ … مُبَاحٍ، وأدْنَتْ مِن شَتِيتٍ مُفَرَّقِ
وَكم نفّستْ في حِمصَ من مُتَأسِّفٍ، … غَدا المَوْتُ مِنهُ آخِذاً بالمُخَنَّقِ
وقدْ قَطَعتْ عَرْضَ الأُرُندِ إلَيهمُ، … كَتائبُ تُزجَى فَيْلَقاً بَعدَ فَيْلَقِ
بهِ استأنَفُوا بَرْدَ الحَياةِ، وأُسنِدُوا … إلى ظِلّ فَيْنَانٍ من العَيشِ، مُورِقِ
فَشُكراً بَني كَهلانَ للمُنعِمِ الذي … أتَاحَ لَكُمْ رأيَ الإمامِ المُوَفَّقِ
ثَنى عَنكُمُ زَحفَ الخِلاَفَةِ بَعدَما … أضَاءَتْ بُرُوقُ العَارِضِ المُتَألِّقِ
وَقد شُهرَتْ بِيضُ السّيُوفِ وأعرَضَتْ … صُدُورُ المَذاكي من كُمَيتٍ وأبْلَقِ
هُنالِكَ لَوْ لَمْ يفْْتُلتْكُمْ حُمِلْتُمُ … على مثلِ صَدرِ اللَّهْذَميّ المُذَلَّقِ
فَلا تَكْفُرُنّ الفَتْحَ آلاءَ مُنْعِمٍ، … نجوْتُمْ بها من لاحجِ القُطرِ ضَيّقِ
وَعُودُوا لهُ بالشّكرِ منكُمْ يَعُدْ لكمْ … بسَيْبِ جَوَادٍ، باللُّهَى مُتَدَفِّقِ
لَهُ خُلُقٌ في الجُودِ لا يَسْتَطِيعُهُ … رِجَالٌ، يَرُومُونَ العُلاَ بالتَخَلّقِ
إذا جَهِلُوا من أينَ تَحتَضِرُ العُلاَ، … دَرَى كَيفَ يَسمُو في ذُرَاها وَيَرْتَقي
أطَلّ على الأعداءِ مِنْ كُلّ وِجْهَةٍ، … وَشَارَفَهُمْ من كلّ غَرْبٍ وَمَشرِقِ
بِبِيضٍ مَتى تُشهَرْ عَلى القَوْمِ يُغْلَبُوا، … وَخَيلٍ متى تُرْكَضْ إلى النّصرِ تَسبقِ
أُعِينَ بَنُو العَبّاسِ مِنهُ بِصَارِمٍ … جِرَازٍ، وَعَزْمٍ كالشّهَابِ المُحَرِّقِ
وَصَدْرٍ أمِينِ الغَيْبِ يُهْدِي إلَيْهِمِ … نَصِيحَةَ حَرّانِ الجَوَانِحِ مُشْفِقِ
فَحَوْلَهُمُ مِنْ نَضْحِهِ وَدِفَاعِهِ … تَكَهُّفُ طَوْدٍ بالخِلاَفَةِ مُحْدِقِ
رأيتُكَ مَنْ يَطلُبْ مَحَلّكَ يَنصَرِفْ … ذَميماً، وَمَنْ يَطلُبْ بسَعيِكَ يَلحَقِ
لكَ الفَضْلُ والنُّعمَى عَليّ مُبينَةٌ، … وَمَا ليَ إلاّ وُدُّ صَدْرِي وَمَنْطِقِي