لعمرك ما تجزي مفداة شقتي – الفرزدق

لعَمْرُكَ ما تَجِزِي مُفَدَّاةُ شُقّتي … وَإخْطَار نَفْسِي الكَاشِحِينَ وَمَالِيَا

وَسَيْري إذا ما الطِّرِمْساءُ تَطخطختْ … على الرّكبِ حتى يَحسبوا القُفَّ وَاديَا

وَقِيلي لأصْحابي ألَمّا تَبَيّنُوا … هَوَى النّفْسِ قَد يَبدو لكم من أماميَا

وَمُنْتَجِعٍ دارَ العَدُوّ كَأنّهُ … نَشَاصُ الثّرَيّا يَسْتَظِلُّ العَوالِيَا

كَثِيرِ وَغَى الأصْوَاتِ تَسمَعُ وَسطَهُ … وَئيداً إذا جَنّ الظّلامُ، وَحَادِيَا

وَإنْ حَانَ مِنْهُ مَنْزلُ اللّيلِ خِلتَه … حِرَاجاً تَرَى مَا بَيْنَهُ مُتَدَانِيَا

وإنْ شَذّ مِنْهُ الألْفُ لمْ يُفْتَقَدْ له … وَلَوْ سَارَ في دارِ العَدُوّ لَيَالِيَا

نَزلْنَا لَهُ، إنّا إذا مِثْلُهُ انْتَهَى … إلَيْنَا قَرَيْنَاهُ الوَشِيجَ المَوَاضِيَا

فَلَمّا التَقَيْنا فَاءَلَتْهُمْ نحُوسُهُمْ … ضِرَاباً تَرَى ما بَيْنَهُ مُتَنَائِيَا

وَأخُبرْتُ أعمامي بَني الفِزْرِ أصْبحوا … يَوَدّونَ لَوْ أزْجَوْا إليّ الأفَاعِيَا

فإنْ تَلْتَمِسْني في تَمِيمٍ تُلاقِني … بِرَابِيَةٍ غَلْبَاءَ، تَعْلُو الرّوَابِيَا

تَجِدْني وَعَمْروٌ دونَ بَيْتي وَمالكٌ … يُدِرّونَ للنَّوْكَى العُرُوقَ العَوَاصِيَا

بكُلّ رُدَيْنيٍّ حَدِيدٍ شَبَاتُهُ، … فَأُولاكَ دَوّخْنَا بهِنّ الأعَادِيَا

وَمُسْتَنِبحٍ وَاللّيلُ بَيْني وَبَيْنَهُ … يُرَاعي بِعيْنَيْهِ النّجُومَ التّوَالِيَا

سرَى إذْ تَغشى اللّيلُ تَحمِلُ صَوْتَهُ … إليَّ الصَّبَا، قد ظَلّ بالأمسِ طَاوِيَا

دَعَا دَعْوَةً كَاليأسِ لمّا تحَلّقَتْ … بهِ البِيدُ وَاعْرَوْرَى المِتانَ القَياقِيَا

فقُلتُ لأِهْلي: صَوْتُ صَاحبِ نَفرَةٍ … دَعا أوْ صَدًى نادى الفِرَاخَ الزّوَاقِيَا

تأنّيْتُ وَاستَسمَعتُ حتى فَهِمتُهَا، … وَقد قَفّعتْ نكباء مَن كانَ سارِيَا

فقُمتُ وَحاذَرْتُ السُّرَى أن تَفوتَني … بذي شُقّةٍ تَعلو الكُسورَ الخَوَافِيَا

فَلَمّارَأيْتُ الرّيحَ تَخْلِجُ نَبْحَهُ … وَقَدْ هَوّرَ اللّيلُ السّماكَ اليَمَانِيَا

حَلَفْتُ لهُمْ إنْ لمْ تُجِبْهُ كِلابُنَا … لأسْتَوْقِدَنْ نَاراً تُجِيبُ المُنَادِيَا

عَظِيماً سَنَاهَا للعُفَاةِ، رَفِيعَةً، … تُسامِي أُنُوفَ المُوقِدينَ فنائِيَا

وَقُلْتُ لعَبْدَيَّ: اسْعَرَاها، فإنّهُ … كَفَى بِسَنَاهَا لابنِ إنْسِكَ داعِيَا

فَما خَمَدَتْ حتى أضَاءَ وَقُودُهَا … أخَا قَفْرَةٍ يُزْجي المَطِيّةَ حَافِيَا

فَقُمْتُ إلى البَرْكِ الهُجودِ، ولم يكن … سِلاحي يُوَقّي المُرْبِعَاتِ المَتَالِيَا

فخُضْتُ إلى الأثْنَاءِ مِنْهَا وَقد ترَى … ذَواتِ البَقَايَا المُعسِنات مَكَانِيَا

وَما ذاكَ إلاّ أنّني اخْتَرْتُ للقِرَى … ثَنَاءَ المِخاضِ والجِذاعَ الأوَابِيَا

فمكّنتُ سَيْفي من ذَوَاتِ رِمَاحِهَا … غِشاشاً، ولَمْ أحفِلْ بكاءَ رِعَائِيَا

وَقُمْنَا إلى دَهْمَاءَ ضَامِنَةٍ القِرَى … غَضُوبٍ إذا ما استْحمَلُوها الأثافِيَا

جَهولٍ كَجوْفِ الفِيلِ لم يُرَ مثلُها، … تَرَى الزَّوْرَ فيها كالغُثَاءَةِ طَافِيَا

أنَخَنا إلَيها مِنْ حَضِيضِ عُنَيْزَةٍ … ثَلاثاً كَذَوْدِ الهَاجرِيّ رَوَاسِيَا

فَلَمّا حَطَطْنَاها عَلَيْهِنّ أرْزَمَتْ … هُدُوءاً وَألقَتْ فَوْقَهُنّ البَوَانِيَا

رَكُودٍ، كَأنّ الغَلْيَ فِيهَا مُغِيرَةً، … رَأتْ نَعَماً قَدْ جَنّهُ اللّيْلُ دانِيَا

إذا استَحمَشُوها بالوَقُودِ تَغَيّظَتْ … على اللّحمِ حتى تَترُكَ العَظمَ بادِيَا

كَأنّ نَهيمَ الغَلْيِ في حُجَرَاتِهَا … تَمارِي خُصُومٍ عاقدينَ النّوَاصِيَا

لهَا هَزَمٌ وَسْطَ البُيُوتِ، كَأنّهُ … صَرِيحِيّةٌ، لا تَحرِمُ اللّحمَ جاديَا

ذَلِيلَةِ أطْرَافِ العِظَامِ رَقِيقَةٍ، … تَلَقَّمُ أوْصَالَ الجَزُورِ كمَا هِيَا

فَمَا قَعَدَ العَبْدَانَ حتى قَرَيْتُهُ … حَليباً وَشَحْماً من ذُرَى الشوْلِ وَارِيَا