عاشقة يروادها البكاء عن نفسها – غادة السمان

… ولم يعد المطر يهطل على الورقة

حينما أخطّ اسمك عليها.. ولم تعد العصافير

تقطن أعشاش حروفه ونقاطه…

ولم يعد قلمي يغرورق بالحنين، ويحاول الانتحار

حينما أسطّر به عبارة “وداعاً” لزمنك..

ولم تعد محبرتي

تستحيل بحراً شاسع الزرقة والضوء

وهي تسيل حباً في رسائل تمجيد لعينيك..

وها أنت تتحوّل في برادات النسيان،

إلى ذكرى مثلجة وبغيضة،

كجثث المجرمين الذين لا يتعرف عليهم أحد…

كم كنت أكره تعليب حبنا في قصائد..

تمهيداً لدفنه في تابوت له دفتا كتاب…

بعدما كان طليقاً في الغابات والبراري والشواطئ..

بين صور وبعلبك وبرمانا والأرز.. و..و..

ولكنك أضرمت النار في دفتر الأشجار..

وكان حبك عيداً من الصفاء والأمل،

فصار كرنفالاً في مصحّ عقلي

أطباؤه أعنف مجانينه..

لا أستطيع أن أتملقك كما يفعلون..

ولا الادعاء بأن مسدسك أنيق وشفاف،

ورصاصك موهوب، ومدافعك كمنجات الفرح

ومتاريس رملك تحف معمارية..

ومجازرك “تكتيك” بارع لإستراتيجية “إنسانية”..

وأنت تستحم بلعنات المشردين والمعاقين والثكالى..

وتذبح عيد الأطفال،

وتشنقهم من شعرهم إلى الأراجيح

وتصنع من جلودهم المسلوخة أحذية لمرتزقتك..

وتطرب لجوقة قراصنتك، وناهبي سفن الأبجدية

وهم ينشدون “فعولن مفاعيلن” لمجدك..

والأفاعي تشاركهم الفحيح..

والأيدي المقطوعة تصفّق في فراغ الوطن،

ونحن نحتضر في الملاجئ لحكمةٍ نجهلها…

لأن وهج الشعارات ليس خبزاً وحرية وأمناً

لم يعد بوسعي اختراع التبريرات لجنونك الموسمي..

… ولم يعدْ جلدي يرحّب ببصماتك..

فمكانها في متحف المجرمين السفاحين الكبار…

وأنا أنتمي إلى قافلة الشعراء “الحمقى”،

الذين يجهلون مزايا التغزل بالجزرة والعصا معاً،

فابحث عن مؤرخ سواء..

يُزيّف تاريخك مع الخنجر والدم والعيون المفقوءة،

على طول خمسة عشر عاماً من الظلمات،

واختطاف العيد رهينة في أقبية غرورك…

بكاء يركض في الشوارع عاري القدمين

كالأطفال المذعورين من القنابل والألغام معاً..

.. كان حبك كقبعة الحاوي المشعوذ،

خاوياً، ومليئاً بالأوهام الجميلة الملوّنة…

وصرت حينما تقبّلني

أتحول من أميرة إلى ضفدع

وأكون مستيقظة، فأنام دهراً من الكوابيس…

تعبت منك، ومن أقنعتك وألسنتك وببغائياتك..

تعبت من سفاحي ملصقاتك، طواويس الغطرسة..

“شهداء” النهب في شتاءات الدم واللعنة..

تعبت من الخرائب المعلّقة والأوبئة في ركابك…

والحرائق تشتعل في موطئ قدميك..

تعبت من محاضراتك عن “الكادحين”

في فنادق “الباهامس” ومنتجعات “هاواي”…

وتعبت من بياناتك عن “المسحوقين”

تسطّرها في طائرتك الخاصة

وأنت تغط قلمك في سواد الكافيار الإيراني..

سئمت محاضراتك عن التُقى،

ورائحة الشمبانيا تهب من فمك،

وبالرغم من عبير عطرك الفرنسي الثمين،

تظل تفوح منك روائح أدوية تحنيطك..

وفي ظل هذيانك “النضالي” المزور و “رفاقك”

صار العيد يطارحنا البكاء

والهجرة تراودنا عن أنفسنا..

والموت يغتصبنا في الملاجى..

لم تترك لنا من العيد غير زيارة المقابر…

أركض في مقبرة لبنان الشاسعة..

أقرع شواهد قبور أحبائي بطرف قلمي

يطلعون منها ودمهم ما زال ينزف

ويسألونني : لماذا استدعيتنا هل تبدّل شيء؟

هل عادت أميرة الحرية من غيبوبتها

وانتهت مهرجانات مصاصي الدماء؟

وهل صار العيد ضيفاً مكرماً

في شوارع العويل والكراهية العمياء؟

وأدفن نفسي في أكفان خجلي منهم،

وأهمس بعار تلميذ كسول: لا… لم…

ويعاتبني الأموات: إذاً لماذا استدعيتنا؟

وأنهمر أشواقاً وحزناً وبكاءً: لقد افتقدتكم…