ذكريات – محمد مهدي الجواهري

يا ” ذكرياتُ ” تَحَشَّدي فِرقا … تسَعُ الخيالَ وتملأُ الأُفُقا

وتأهَّبي زُمراً تجهزني … محضَ الأسى ، والذُّعرَ ، والقلقا

هُزِّي الرِّتاجَ عليَّ أُحكِمُه … وتقحَّمي البابَ الذي انغلقا

الليلُ صُبِّي في قرارتهِ … من وحشةٍ ما يفزَعُ الغَسَقا

والريحُ خلِّيها اذا صفِرَت … في البيت تُوسِعُ من به فَرقَا

خَلِّي الصغار من الأسى فَزَعاً … يتساءلون : من الذي طَرَقا

ودَعي الكِبار يرَوْنَ مدخنَةً … فيه ولا يجدون محترِقا

والنَوم من فَزَعِ ” الرؤى ” يبساً … رُدِّيه ، او بدمائها غَرِقا

ليعودَ مما ” تنفُثين ” به … مِسخاً فلا نَوماً ولا أرَقا

والصبحُ رُدِّيه لَمبْسِمه … شَرِقاً وبالعبرات مُختنِقاً

ثم اطلِعي من كلِّ زاوية … ذاك الجبينَ ووجهَه الطَلِقا

حتى إذا انتصف الأصيل به … فتكوّري في صُلبه شَفَقا

ثم اسكُبي نَضْحَ الدماء به … ثم ابعَثي من نَشْرها عَبِقا

وتمزّقي قِطَعاً مضرّجةً … تمتصُّ من نَضَحاتِه عَلَقا

فكأن فيها الصُلْبَ منغلقاً … بجراحه ، والصدرَ منخرقا

يا ذكريات تجسَّدي بَدَناً … غضَّ الصِّبَا ، وتعطَّري خُلُقا

عُريانَ : لا خَتَلا ، ولا وَغَراً … ضَحْيانَ : لا صَلَفاً ، ولا مَلَقا

لم تتركي من كلِّ شاردةٍ … نَمَطاً ، ولا من نأمةٍ نَسَقا

ثم ابدَهيني كلَّ آونةٍ … منها بما يستامُني رَهَقا

يا ذكرياتٌ كلُّها حُرقٌ … تَطَأ الفُؤادَ ، وتلهبُ الحَدَقا

من لي بشِعرٍ خالقٍ شجناً … للناس يُعجزهم بما خَلَقا

هي صُورة حمراءُ من شَجني … تُدمي اليَراع وتُرعب الوَرَقا

ليَرىَ الذين تجاهَلوا برَمَاً … أسيانَ : كيفُ يُكابد الحُرَقا

من لي باطيافٍ تُراوحني … بالهمِّ مُصطبَحاً ومُغتبَقا

متسلسلات كلما وَجَدَتْ … فيها فراغاً ، أفَرغَتْ حَلقا

مستجمعات كلَّ خاطرةٍ … ما جدَّ من عهدٍ وما خَلِقا

ما كان مثلَ القبر مُختفياً … تُبديه مثلَ النجم مُنبثِقا

فَرِحاً ومكتئباً ومختلِطاً … بهما ، ومُتَّحداً ، ومفترِقا

من لي بها وكأنَّها بشرٌ … عن نفسه يَروي اذا نطَقا

من لي باشباحٍ أنوءُ بها … رَسْفَ السجين بقيَدِه عَلِقا

حتى اذا انصَرَمَت بدا شَبَحٌ … حُلوٌ يكادُ يُطيرني نَزَقا

طوراً نَروح معاً على ظَمَاً … منها ، وطوراً نستَقي غَدَقا

يوماً بقَعر البيت يُوغرنا … حَنَقاً ، قضاءٌ مُوغِر حَنِقا

وهُنيهة نرتاد مُرتفِعاً … من هَضْب ” لبنانٍ ” ومُنْزَلِقا

من لي بها تَعتادُ قارئها … فَرَقاً ، كما تَعتادني فَرَقا

وتردُّ – مثلي – عيشَه رَنِقاً … وتَسُدُّ – مثلي – حَولَه الطُرقا

من لي بشِعرٍ خالقٍ حُرَقاً … تطأ الفؤادَ وتُلهِبُ الحَدَقا

ليريُهم القلبينِ قد لَصِقا … صِنويَن ، كيف اذا هُما افتَرَقا

واذا هما – والموت بينهما … مدّا من الجْيدينِ فاعتَنَقا

وتساءَلا : ما ضرَّ لو سلكا … كَفَناً معاً ، وبحبله عَلِقا

حتى اذا استبقى احرُّهما … رَمَقاً ، واسلَمَ خِدنُهُ رَمَقا

وحثا التُرابَ بوجهه قَدَرٌ … عبّا لكل مُفارق طَبَقا

وانداحَتِ الدنيا بناظرِه … حتى لظَنَّ رحابَها نَفَقا

ومضى حسابُّهما برُمَّته … ما انفكَّ من دَين وما انغَلَقا

صَفَقَ اليدين كأنَّ مرتجِعاً … يرجُو لصاحِبه بما صَفَقا

وكأنما يُعطي الشقيقَ دماً … ان الشقيقَ بدمعه شَرِقا

وكأنما انشقَّ الضريحُ له … بـ ” رعى السحابُ ضريحَه وسَقَى “