تضاحكت أن رأت شيبا تفرعني – الفرزدق
تَضَاحَكَتْ أنْ رَأتْ شَيباً تَفَرّعَني، … كأنّها أبصَرَتْ بَعَضَ الأعاجيبِ
مِنْ نِسْوَةٍ لبَني لَيْثٍ وَجيرَتِهمْ، … بَرّحنَ بالعينِ من حُسنٍ وَمن طيبِ
فَقُلْتُ إنّ الحَوَارِيّاتِ مَعْطَبَةٌ، … إذا تَفَتّلْنَ مِنْ تَحْتِ الجلابيبِ
يَدْنُونَ بالقَوْلِ، والأْحشَاءُ نَائِيَةٌ، … كدأبِ ذي الصَّعنِ من نأيٍ وَتقرِيبِ
وَبالأمانيّ، حَتى يَخْتَلِبْنَ بِهَا … مَن كانَ يُحسَبُ منّا غيرَ مَخلوبِ
يأبَى، إذا قلتُ أنسَى ذِكرَ غانِيَةٍ، … قلَبٌ يَحِنّ إلى البِيضِ الرّعابيبِ
أنْتِ الهَوَى، لَوْ تُوَاتِينا زِيَارَتُكُمْ، … أوْ كانَ وَلْيُكِ عَنّا غَيرَ محْجُوبِ
يا أيّها الرّاكِبُ المُزْجي مَطِيّتَهُ، … يُرِيدُ مَجْمَعَ حاجاتِ الأرَاكِيبِ
إذا أتَيْتَ أميرَ المُؤمِنينَ فَقُلْ، … بالنّصْحِ وَالعِلْمِ، قَوْلاً غيرَ مكذوبِ
أمّا العِرَاقُ فَقَدْ أعطَتكَ طاعَتَها، … وَعَادَ يَعْمُرُ مِنْهَا كُلُّ تَخْرِيبِ
أرْضٌ رَمَيْتَ إلَيها، وَهْيَ فاسِدَةٌ، … بِصَارِمٍ مِنْ سُيُوفِ الله مَشْبُوبِ
لا يَغْمِدُ السّيفْ إلاّ مَا يُجَرِّدُهُ … على قَفَا مُحْرِمٍ بِالسّوقِ مَصْلوبِ
مُجَاهِدٍ لِعُداةِ الله، مُحْتَسِبٍ … جِهادَهُمْ بِضِرَابٍ، غَيرَ تَذْبيبِ
إذا الحْرُوبُ بَدَتْ أنيابُهَا خَرَجَتْ … ساقَا شِهابٍ، على الأعداء، مَصْبوبِ
فالأرْضُ لله وَلاّهَا خِلِيفَتَهُ، … وَصَاحِبُ الله فِيهَا غَيرُ مَغْلُوبِ
بَعْدَ الفَسَادِ الّذي قَد كانَ قامَ بهِ … كَذّابُ مكّةَ من مَكْرٍ وَتَخرِيبِ
رَامُوا الخِلافَةَ في غَدْرٍ، فأخطأهُم … مِنْهَا صُدُورٌ، وَفَازُوا بالعَرَاقِيبِ
كانوا كسالِئَةٍ حَمقاءَ إذْ حَقَنَتْ … سِلاءَهَا في أديمٍ غَيرِ مَرْبُوبِ
والنّاسُ في فِتنَةٍ عَمياءَ قد تَركَتْ … أشرَافَهُمْ بَينَ مَقْتُولٍ ومحرُوبِ
دَعَوْا لِيَسْتخْلفَ الرّحمنُ خيرَهُم، … والله يَسْمَعُ دَعَوى كُلّ مكْرُوبِ
فَانقَضّ مِثْلَ عَتِيقِ الطّيرِ تَتْبَعُهُ … مَساعِرُ الحَرْبِ مِنْ مُرْدٍ وَمن شيبِ
لا يَعْلِفُ الخَيْلَ مَشدوداً رَحائِلُها … في مَنْزلٍ بِنَهَارٍ غَيرَ تَأوِيبِ
تَغْدُو الجِيادُ وَيَغدو وَهوَ في قَتَمٍ … مِنْ وَقْعِ مُنَعَلَةٍ تُزْجى وَمجْنوبِ
قِيدَتْ لَهُ من قُصُورِ الشّامِ ضُمّرُها … يَطلُبْنَ شَرْقيَّ أرْضٍ بَعْدَ تَغرِيبِ
حتى أناخَ مَكانَ الضّيْف مُغْتَصِباً … في مُكْفَهرَّينِ مِثْلَيْ حرّةِ اللُّوبِ
وَقد رَأى مُصْعَبٌ في ساطِعٍ سَبِطٍ … مِنْهَا سَوَابِقَ غارَاتٍ أطانِيبِ
يَوْمَ تَرَكْنَ لإبْرَاهِيمَ عَافِيَةً … مِنَ النّسُورِ وُقُوعاً وَاليَعَاقِيبِ
كَأنّ طَيراً مِنَ الرّايَاتِ فَوْقَهُمُ … في قَاتِمٍ، لَيْطُها حُمرُ الأنابيبِ
أشْطانَ مَوْتٍ تَرَاها كُلّما وَرَدَتْ … حُمراً إذا رُفِعَتْ من بَعدِ تَصْوِيبِ
يَتْبَعْنَ مَنصُورَةً تَرْوى إذا لَقِيَتْ … بقانىءٍ من دَمِ الأجوَافِ مَغصُوبِ
فَأصْبَحَ الله وَلّى الأمْرَ خَيرَهُمُ، … بَعدَ اختِلافٍ وَصَدعٍ غَيرِ مَشعوبِ
تُرَاثَ عُثمانَ كانوا الأوْلِيَاءَ لَهُ، … سِرْبالَ مُلْكٍ عَلَيْهِمْ غيرَ مسلوبِ
يَحْمي، إذا لَبِسوا، الماذِيُّ مُلكَهُمُ، … مِثْلَ القُرُومِ تَسَامَى للمَصَاعيبِ
قَوْمٌ أبُوهُمْ أبُو العاصي أجادَ بهمْ، … قَرْمٌ نَجِيبٌ لِحُرّابٍ مَناجِيبِ
قَوْمٌ أُثِيبُوا على الإحسانِ إذْ مَلكوا، … وَمِنْ يَدِ الله يُرْجى كُلُّ تَثْوِيبِ
فَلَوْ رَأيْتَ إلى قَوْمي إذا انْفَرَجَتْ … عن سابِقٍ وَهوَ يجرِي غيرِ مَسبوبِ
أغَرَّ يُعْرَفُ دُونَ الخَيْلِ مُشتَرِفاً، … كالغَيْثِ يَحفِشُ أطْرَافَ الشآبيبِ
كادَ الفُؤادُ تَطِيرُ الطّائِرَاتُ بهِ … مِنَ المَخافَةِ، إذْ قال ابنُ أيّوبِ
في الدّار: إنّكَ إن تُحدثْ فقد وَجَبتْ … فيكَ العُقُوبَةُ مِنْ قَطْعٍ وَتَعذيبِ
في مَحْبَسٍ يَتَرَدّى فيه ذو رِيَبٍ، … يُخشَى عَليّ، شديدِ الهَوْلِ مَرْهوبِ
فقُلتُ: هل يَنفَعَنّي إن حضرْتُكُمْ … بِطاعَةٍ وَفُؤادٍ مِنك مَرْعُوبِ
ما تَنْهَ عَنه، فإنّي لَسْتُ قارِبَهُ، … وَما نَهَى منْ حَلِيمٍ مِثْلُ تَجْرِيبِ
وَما يَفُوتُكَ شَيْءٌ أنْتَ طالِبُهُ، … وَما مَنَعْتَ فَشَيءٌ غَيرُ مَقْرُوبِ