بعث الحبيب رسائل الأعطار – ابن شيخان السالمي

بعث الحبيب رسائل الأعطار” … “فأتت تهيم بها صبا الأسحارِ

مرَّت بنا سكرى يضمخ طيبها” … “حلل الدجى وعمائم الأشجارِ

طافت بقامات الغصون كؤوسها” … “فتمايلت من هزّةِ الإِسكارِ

واستقبلت دِمَنَ القلوبِ هشيمةً” … “فأزاح باردُها مشاعلَ نارٍ

إِنَّ الحبيب وإن تمذهب في الجفا” … “قَصْدَ الوفا بمواجب الأحرارِ

والدين مألفة التقى وعلامة” … “تمحو الشقا كالماء أو كالنارِ

لما رأى موتي ضنى أمر الصَبا” … “رأس الأطبّة أن تعوج بداري

يا نفحة رشفت لَماهُ فأرضعت” … “أحشاء جسم فيه حكم الباري

خطرت بمسرَاها اللطيف ضعيفة” … “تدني الخطأ مخضوبة الأسوارِ

عوجي بجسمي فهو مثلك رقة” … “واجري بدمعي فهو إثرك جارِ

فلعل خيل الحظ تركض بي إلى” … “أرض اللقا في حلبة الأقدارِ

ولعل كف الدهر تمحو ما بدا” … “من صرفه بجميله الستَّارِ

فلطالما خضنا حشى ليل الرضا” … “قبل الفراق وللسرور مجاري

وكأنما المريخ مجمر فضةٍ” … “شبت عليه بقية من نارِ

والليل مسود الجبين تروعه” … “شهب السما كمطالب بالثارِ

يَسْودّ خوفاً من أسنّتها وقد” … “يبيضّ أمناً من سنى الأقمارِ

لكن جيوش دجاه قد دفقت على” … “اغراق أعداهُ عباب بحارِ

فغدا يجرّ بنا السرور إلى الذي” … “نهوى وفيه قرة الأبصارِ

َعَلا بنا الإِقبالُ أفقَ حديقةٍ” … “جمَّاعةِ الأسماع والأبصارِ

نَسَج الربيع لها بروداً دُبِّجت” … “من حسن لونَي فضّةٍ ونضُارِ

نصب الغمام على رؤوس خيَامها” … “للفاكهين ملاحف الأستارِ

قد كللت أشجارها بجواهر” … “الأزهار لا بجواهر الأحجارِ

وشقائق النعمان تضرم نارها” … “لتذيب تبر غلائل الأزهارِ

ونواضر النوار قد فقأت متى” … “ذابت عليها فضة الأنهارِ

والطير يشدو في الغصون كأنما” … “نَغَماته ضرب من الأوتارِ

وتهبُّ من بين الخمائل نسمة” … “طافت على الأحشا بكأس عُقَارِ

لله ما أحلى لُيَيْلتَنا بهَا” … “جمعت صنوف الحسن للنظارِ

فالأرض فُرْشٌ والنبات أسرِّةٌ” … “والنَّشرْ مسك والمقام نهاري

والنهر صرف والكواكب أكؤس” … “والطير عود والغصون جوارِ

وقد انتهت حسناً ولم نبرح بهَا” … “أكرْم بهَا من روضة معطارِ

وجرى شذاها في الرياض كما جرى” … “فضل أبن يوسف سائر الأقطارِ

ذاك الامام المغربي محمد” … “ذو الفضل والمعروف والإِيثارِ

قطب الدنا ملك الورى طود العلا” … “رب الندى علم الهدى للساري

أنشاه رب العرش أكبر آية” … “في الأرض قد بهرت أولي الأبصارِ

وأقامه في العالمين خليفة” … “لا زال يمحو آية الكفارِ

ولقد تبحّر في العلوم فلم يزل” … “متدفقاً في سائر الأمصارِ

نشر المنافع بالأراضي قاذفاً” … “بجواهر الآثار والأذكارِ

تبدي نتائجه النفيسَة نفعها” … “لكن تقطع أكبدُ الأشرارِ

وجرى على الدين القويم فأشرقت” … “أعلامه مكشوفة الأستارِ

فغدا به بيت الضلال مهدّماً” … “خاوي الأوانس دارس الآثارِ

وله خصال ليس يدرك شأوها” … “تسبي الأنام ولات حين مُماري

قد أفحم البلغاء بالحجج الَّتي” … “برهانها يغشى على الأسحارِ

قد أبطل الشجعَان في الوقت الذي” … “أمواجه تزري على التيارِ

قد أعجز النجباء بالهمم التي” … “يُوري بهَا في الماء جذوة نارِ

قد أزهد الزهاد بالورع الذي” … “تنذاب منه قسوة الأحجارِ

قاد الزمانَ ذكاؤه فمضى على” … “أمنٍ ولم يأذن له ببوارِ

واستخدمت أيامُه أبناءه” … “فجرى بهم في طاعة الجبَّارِ

وتقحمت أهواؤه ما شاء من” … “نيل الجميل بجده الوقَارِ

وعلت به هِمَاته هامَ العُلا” … “حتى استوى بأسرَّة الأقمارِ

وتصرَّفت أحكامه بين الورى” … “فكأنه قَدَر من الأقدارِ

وأطاف بالدنيا نداهُ وعدله” … “فتكفّلا بإِزالةِ الأكدارِ

فكسَاه رب العرش ثوب سلامة” … “وجلالة وسكينة ووقارِ

وغدا وكلٌّ وارد من فضله” … “إما لدنيا أو لدار قرارِ

يا من توطّن حبُّه في مهجتي” … “هب لي غنىً من غامض الأسرارِ

وانْصَب لربك لي فيرفع رتبتي” … “ويجرُّني من عالَم الأغيارِ

واسألهُ يلهمْني العلوم فإنني” … “لا شك من حلل المعارف عارِ

فجزاك من سوَّاك فينا حجة” … “أعلى المقام بجنّة الأبرارِ

وإليكها عذراءَ ترفل من بني” … “مدحي إليك بسندس الأنوارِ

وافت لشيخ سوف يجلو أجرَها” … “بمديحه مني صدى الأوزارِ

كملت محاسنه فلم تر مسلكاً” … “في الفضل إلا وهو فيه جاري