الخريف – إبراهيم ناجي

يا حبيبي غيمة في خاطري … وجفوني وعلى الأفق سحابهْ

غفر اللهُ لها ما صنعت … كلما شاكيتها تندى كآبهْ

صرخ القفرُ لها منتحِباً … وبكى مستعطفاً مما أصابهْ

فأصمّ الغيثُ عنهُ أذنَهُ … ما على الأيام لو كان أجابهْ

كثر الهجرُ على القلب فهل … من سلو أو بعاد يرتضيهِ

أنت فجرٌ من جمال وصبا … كل فجر طالع ذكَّرنيهِ

كيف جانبتك أبغي سلوةً … ثم ناجيتك في كل شبيهِ

أيها الساكن عيني ودمي … أين في الدنيا مكان لست فيهِ

عندما أزمعَ ركب العمرِ … رحلةً نحو المغاني الأخرِ

ظهرت تجلوك كفُّ القدرِ … صورةً أروع ما في الصورِ

تتراءى في الشباب العطرِ … نفحةً تحمل طيبَ السحرِ

وقف العمرُ لها معتذراً … وثنى الركبُ عنانَ السفرِ

عندما أقفرتِ الدنيا جميعاً … لحتَ لي تحمل عمراً وربيعا

إن يكن حلماً تولى مسرعاً … أجمل الأحلام ما ولى سريعا

إن يكنْ ما كان دَيْناً يقتضيْ … خلني أدفعه عنك دموعا

قد شريناه عزيزاً غالياً … إن تكن بعتَ فإني لن أبيعا

يا ندامى الحب سُمار الهوى … سكبوا لي السهدَ في ذاك الشراب

ارقوني أجرع السقم وبي … صفرة الكأس وأوهام الحباب

كلما تقبل أيام المنى … تنجلي النعماءُ عن ذاك السراب

وترى أياميَ الحيرى على … عرسها الضاحك أحزان الضباب

لم أقيدك بشيء في الهوى … أنت من حبي ومن وجدي طليقْ

الهوى الخالص قيد وحده … رب حر وهو في قيد وثيقْ

مزّقت كفيك أشواكُ الهوى … وأنا ضقت بأحجار الطريقْ

كم ظميٍ يرتوي … وغريق مستعين بغريقْ

يا ليالي العمر ما سر الليالي … البطيئات المملات الطوالِ

مسرعات مبطئات ولها … خفة الموت وأثقال الجبالِ

كاسفات البال عرجاء المنى … عاثرات الحظ شوهاء الظلالِ

عجباً للعمر يمضي مسرعاً … للمنايا بسلحفاة الملال (؟)

يا قمارى الروض في أيك الهوى … جفّتِ الورضةُ من بعد النديمْ

حل بالأيك خريفٌ منكرٌ … وظلال قاتماتٌ وغيومْ

ماتت الروضةُ إلا طائفاً … من هوى حي على الذكرى يقومْ

فإذا أنكر ما حل بها … فر يبغي سربَه بين النجومٍْ

شاهت الدنيا وجوهاً ورؤىً … وتولاها سهومٌ ووجومْ

يا عذارى الحسن في ظل الصبا … كل حسن بعد ليلاي دميمْ

يا نعيم العيش في ظل الرضا … آه لو أعرف ما طعم النعيمْ

أنكر الجنةَ قلبٌ ضجرٌ … أبدي النار موصول الجحيمْ

طالما موهتُ بالضحك فما … غيَّر التمويهُ رأياً لك فيا

كلما تنظر في عيني ترى … سريَ الغافي ومعناي الخفيا

وترى في عمق روحي زهرةً … قد سقاها الحزنُ دمعاً أبديا

ويراه الناسُ طلا وترى … أنت دمعاً غائماً في مقلتيا

يا فؤادي ما ترى هذا الغروبْ … ما ترى فيه انهيار العمرِ؟

ما ترى فيه غريقاً ذا شحوبْ … ينلاشى في خضم القدرِ؟

ما تراها اتأدتْ قبل المغيبْ … ورمتْ من عرشها المنحدرِ

لفتةَ الحسرةِ للشط القريبْ … قبل أن تسقط خلف النهرِ…

يا فؤادي قاتل اللهُ الضجرْ … وعذابي بين حل وسفرْ

ما ترى قنطرةً من بعدها … راحة ترجى وبال يستقرْ

ذلك الجرح وما أفدحه … ما عليه لو إلى السلوى عبرْ

قد طواه اليوم في بردته … وأتى الليلُ عليه فانفجرْ

مرَّ يومي فارغاً منك ومن … أملِ اللقيا فما أتعسَ يومي

أنت يومي، وغدي أنت، وما … من زمان مرّ بي لم تكُ همي

آهِ كم أغدو صغيراً، حاجتي … لكَ كالطفل إلى رحمةِ أمِّ

ولكم أكبر بالحب إلى أن … أغتدي مستشرقاً آفاق نجمِ

أي سرٍّ فيك إني لست أدري … كل ما فيك من الأسرار يغري

خطرٌ ينسابُ من مفتر ثغر … فتنة تعصف من لفتة نحرِ

قدر ينسج من خصلة شعر … زورق يسبحُ في موجةِ عطرِ

في عباب غامض التيار يجري … واصلاً ما بين عينيك وعمري

ذات ليلٍ والدجى يغمرنا … أترى تذكر إذ جزنا المدينةْ؟

كلما روعت من نار شجٍ … حر ما يصلى تلمست جبينَهْ

بيدٍ شفافة مثل الندى الرطبِ … تعيد النار بردا وسكينه

أيها الآسي لناري هذه … ما الذي تصنع بالنار الدفينه؟

أخيالاً كان هذا كلُّهُ … ذلك الجسر الذي كنا عليه؟

والمصابيح التي في جانبيه … ذلك النيل وما في شاطئيه؟

وشعاع طوفت في مائه … وظلالٌ رسبت في ضفتيه

وحبيب وادع في ساعدي … ووعود نلتها من شفتيه؟

رب لحن قص في خاطرنا … قصةَ الحادي الذي غنّى سهادَهْ

وكأن الصمت منه واحدةٌ … هيأتْ من عشبِها الرطبِ وسادَهْ

ها أنا عدت إلى حيث التقينا … في مكان رفرفت فيه السعادَهْ

وبه قد رفرف الصمتُ علينا … إنَّ في صمت المحبين عبادَهْ

رفرف الصمتُ ولكن أقبلتْ … من أقاصي السهلِ أصداءً بعيدَهْ

تتهادى في عبابٍ ساحرٍ … مرسلٍ للشطِّ أمواجاً مديدَهْ

كم نداء خافت مبتعد … تشتهي أذنُ الهوى أن تستعيدَهْ

عاد منساباً إلى أعماقها … هامساً فيها بأصداءٍ جديدَهْ

رفرف الصمتُ ولكن ها هنا … كل ما فيك من الحسنى يغني

آه كم من وتر نام على … صدر عودٍ نومَ غاف مطمئنِ

وبه شتى لحون من أسى … وحنينٍ وأنينٍ وتمني

رقد العاصفُ فيه وانطوتْ … مهجةُ العودِ على صمتٍ مرنِ…

هذه الدنيا هجيرٌ كلُّها … أين في الرضاء ظل من ظلالكْ

ربما تزخر بالحسن وما … في الدمى مهما غلت سر جمالكْ

ربما تزخر بالنور وكم … من ضياء وهو من غيرك حالكْ

لو جرت في خاطري أقصى المنى … لتمنيتُ خيالاً من خيالك

أنا إن ضاقت بي الدنيا أفئْ … لثوانٍ رحبةٍ قد وسعتنا

إنما الدنيا عبابٌ ضمنا … وشطوطٌ من حظوظٍ فرقتنا

ولقد أطفو عليه قلقاً … غارقاً في لحظة قد جمعتْنا

كلما تترى المعاني أجتلي … خلف معناها لأسرارِك معنى

ما الذي صبك صباً في الفؤادْ … ما الذي إن أقصِه عنيَ عادْ

طاغياً يعصفُ عصفاً بالرشادْ … ظامئاً سيان قرِب وبعادْ

ساهر العينين موصول السهادْ … ما الذي يجري لهيباً في الرمادْ

ما الذي يخلقنا من عدم … ما الذي يجري حياةً في الجمادْ

كم حبيب بعدت صهباؤه … وتبقت نفحةٌ من حببِهْ

في نسيجٍ خالدٍ رغم البلى … عبث الدهرُ وما يعبث بِهْ

ما الذي في خصلة من شعرهِ … ما الذي في خطه أو كُتبِهْ

ما الذي في اثرٍ خلَّفه … من أفانين الهوى أو عجبِهْ

ما الذي في مجلس يألفه … عقد الحبُّ عليه موعدَهْ

ربما يبكي أسى كرسيُّهُ … إن نأى عنه وتبكي المائدَهْ

ربما نحسبها هشتْ إذا … عائدٌ هش لها أو عائدَهْ

ربما نحسبها تسألنا … حين نمضي أفراق لعدَهْ؟

كم أعدت لك ستراً في الخفاء … وتوارت عن عيون الرقباء

كم أعدت نفسها وانتظرت … واستوت موحشة تحت السماء؟

وهي لو تملك كفا صافحت … كفَّك الحلوةَ في كل مساء

وهي لو تملك جوداً بذلت … كل ما تملك كفٌّ من سخاء

رب كرم مده الليل لنا … فتواثبنا له نبغي اقتطافَهْ

وعلى خيمته أسوده … عربي الجود شرقي الضيافَهْ

وجد العرس على بهجته … وسناه دون ورد فأضافَهْ

ثم وارت يدَه جنيةٌ … وطوته بأساطير الخرافَهْ…

أرج يعبق في أنحائه … حملته نحو عرشينا الرياحْ

كل عطر في ثناياه سرى … كان سرّاً مضمراً فيه فباحْ

يا لها من حقبة كانت على … قِصَرٍ فيها كآماد فساحْ

نتمنى كلما طابت لنا … أن يظل الليل مجهول الصباحْ

يا فؤادي العمر سفرٌ وانطوى … وتبقتْ صفحة قبل النوى

ما الذي يغريك بالدنيا سوى … ذلك الوجه، وذياك الهوى