أقصر حميد لا عزاء لمغرم – البحتري

أقَصْرَ حُمَيدٍ لا عَزَاءَ لمَغْرَمِ، … وَلا قَصرَ عن دَمعٍ، وَإن كان من دمِ

أفي كُلّ عَامٍ لا تَزَالُ مُرَوَّعاً … بِفَذّ نَعيٍّ، تارَةً، أوْ بتَوْءَمِ

مَضَى أهلُكَ الأخْيَارُ، إلاّ أقَلَّهُمْ، … وَبَادوا، كمَا بَادَتْ أوَائلُ جُرْهُمِ

فَصِرْتَ كَعُشٍّ خَلّفَتْهُ فِرَاخُهُ … بعَلْيَاءِ فَرْعِ الأثْلَةِ المُتَهَشِّمِ

أحَبّ بَنُوكَ المَكْرُماتِ، فَفُرّقَتْ … جَماعَتُهُمْ في كلّ دَهياءَ صَيلَمِ

تَدانَتْ مَنَاياهُمْ بهِمْ، وَتَباعَدَتْ … مَضَاجِعُهُمْ عَنْ تُرْبِكَ المُتَنَسَّمِ

فَكُلٌّ لَهُ قَبْرٌ غَرِيبٌ بِبَلْدَةٍ، … فمِنْ مُنجِدٍ نائي الضّرِيحِ، وَمُتهِمِ

قُبُورٌ، بأطْرَافِ الثّغُورِ، كأنّمَا … مَوَاقِعُها مِنْهَا مَوَاقِعُ أنْجُمِ

بشاهِقَةِ البَذّينِ قَبْرُ مُحَمّدٍ، … بَعيدٌ عَنِ البَاكينَ، في كلّ مأتَمِ

تَشُقُّ عَلَيْهِ الرّيحُ، كلَّ عَشيّةٍ، … جُيُوبَ الغَمَامِ بَينَ بِكْرٍ وَأيِّمِ

وَقَبرَانِ في أعْلَى النّبَاجِ سَقَتْهُما … بُرُوقُ سُيُوفِ الغَوْثِ غَيثاً من الدّمِ

أقَبْرَا أبي نَصْرٍ وَقَحْطَبَةٍ هُمَا … بحَيثُ هُمَا، أمْ يَذْبُلٍ وَيَرَمْرَمِ

وَبالمَوْصِلِ الزْهرَاءِ مَلْحَدُ أحْمَدٍ، … وَبَينَ رُبَى القَاطولِ مَضْجعُ أصرَمِ

وَكَمْ طَلَبَتهُمْ مِنْ سَوَابقِ عَبْرةٍ، … متى ما تُنَهْنَهْ بالمَلامَةِ تَسْجُمِ

نَوَادِرُ في أقصَى خُرَاسانَ جاوَبَتْ … نَوَائحَ، في بَغدادَ، بُحِّ التّرَنّمِ

لَهُنّ عَلَيْهِمْ حَنّةٌ بَعْدَ أنّةٍ، … وَوَجْدٌ كَدُفّاعِ الحَرِيقِ المُضَرَّمِ

أبَا غانِمٍ أرْدَى بَنيكَ اعتِقادُهُمْ … بأنّ الرّدَى، في الحرْبِ، أكبرُ مَغنمِ

مَضَوْا، يَستَلِذّونَ المَنايا حَفيظَةً، … وَحِفظاً لذاكَ السّؤدَدِ المُتَقَدّمِ

وَمَا طَعَنُوا إلا ّ برُمْحٍ عَمْرٍ مُوَصَّلٍ، … ومَا ضَرَبُوا إلاّ بسَيْفٍ مُثَلَّمِ

وَلَمّا رَأوْا بَعضَ الحَياةِ مَذَلّةً … عَلَيهِمْ، وَعِزَّ المَوْتِ غَيرَ مُحرَّمِ

أبَوْا أن يَذوقوا العَيشَ، وَالذّمُّ وَاقعٌ … عَلَيْهِ، وَمَاتُوا ميتَةً لَمْ تُذَمَّمِ

وَكُلُّهُمُ أفْضَى إلَيْهِ حِمَامُهُ … أمِيراً عَلى تَدبيرِ جَيشٍ عَرَمْرَمِ

تَوَلّى الرّدَى مِنْهمُ بهَبّةِ صَارِمٍ، … وَمَجّةِ ثُعْبَانٍ، وَعَدْوَةِ ضَيغَمِ

حُتُوفٌ أصَابَتْهَا الحُتوفُ، وَأسهُمٌ … من المَوْتِ، كَرَّ المَوْتُ فيها بأسهُمِ

ترَى البِيضَ لم تَعرِفهُمُ، حينَ وَاجهتْ … وُجوهَهُمُ في المأزِقِ المُتَجَهِّمِ

وَلمْ تَتَذَكّرْ رَيّهَا بأكُفّهِمْ، … إذا أوْرَدُوها تحتَ أغْبَرَ أقْتَمِ

بَلى غَيرَ أنّ السّيفَ أغدَرُ صَاحبٍ، … وَأكْفَرُ مَنْ نَالَتْهُ نِعْمَةُ مُنعِمِ

بنَفسِي نُفوسٌ لم تكُنْ جُملةُ العِدى … أشَدّ عَلَيهمْ مِن وُقُوفِ التّكَرّمِ

وَلَوْ أنصَفَتْ نَبهَانُ ما طَلَبَتْ بهمْ … سوَى المَجدِ، إنّ المجدَ خُطّةُ مَغرَمِ

دَعاها الرّدى بَعدَ الرّدى، فتَتابَعَتْ … تَتَابُعَ مُنْبَتّ الفَرِيدِ المُنَظَّمِ

سَلامٌ على تِلْكَ الخَلائقِ، إنّها … مُسَلَّمَةٌ مِنْ كُلّ عَارٍ وَمَأثَمِ

مَسَاعٍ عِظامٌ لَيسَ يَبلَى جَديدُها، … وَإنْ بَلِيَتْ مِنْهُمْ رَمَائِمُ أعظُمِ

وَلا عَجَبٌ للأُسْدِ، إنْ ظَفِرَتْ بها … كِلابُ الأعادي مِنْ فَصِيحٍ وَأعجمِ

فحَرْبَةُ وَحشِيٍّ سَقَتْ حَمزَةَ الرّدى، … وحَتْفُ عَليٍّ عَن حُسامِ ابنِ مُلجِمِ

أبا مُسلِمٍ لا زِلْتَ بيِْنَ مُودَعٍ لنا … مِنَ المُزْنِ مَسكوبِ الحَيا وَمُسَلِّمِ

مَدامعُ بَاكٍ مِنْ بَني الغَيثِ، وَالِهٍ، … أُعارِكُها، أوْ ضَاحكٍ مُتَبَسّمِ

لَئِنْ لمْ تَمُتْ نَهبَ السّيوفِ وَلم تُقِمْ … بَوَاكيكَ أطرَافَ الوَشيجِ المُقَوَّمِ

لَبالرّكضِ في آلِ المَنِيّةِ، مُعلَماً، … إلى كلّ قَرْمٍ، بالمَنيّةِ، مُعْلَمِ

وَحَملِكَ ثِقلَ الدّرْعِ يحمى حديدُها … على ضَعْفِ جِسْمٍ، بالحَديدِ، مُهَدَّمِ

وَما جَدَثٌ فيهِ ابتسامُكَ للنّدَى، … إذا أظلَمَتْ أجداثُ قَوْمٍ، بمُظْلِمِ