كدعواك كل يدعي صحة العقل – المتنبي

كدَعْواكِ كُلٌّ يَدّعي صِحّةَ العقلِ … وَمَن ذا الذي يدري بما فيه من جَهْلِ

لَهِنّكِ أوْلَى لائِمٍ بِمَلامَةٍ … وَأحْوَجُ ممّنْ تَعذُلِينَ إلى العَذلِ

تَقُولِينَ ما في النّاسِ مِثلَكَ عاشِقٌ … جِدي مثلَ مَن أحبَبْتُهُ تجدي مِثلي

مُحِبٌّ كَنى بالبِيضِ عن مُرْهَفَاتِهِ … وَبالحُسنِ في أجسامِهِنّ عن الصّقلِ

وَبالسُّمْرِ عن سُمرِ القَنَا غَيرَ أنّني … جَنَاهَا أحِبّائي وَأطْرَافُها رُسْلي

عَدِمْتُ فُؤاداً لم تَبِتْ فيهِ فَضْلَةٌ … لغَيرِ الثّنَايَا الغُرّ وَالحَدَقِ النُّجلِ

فَمَا حَرَمَتْ حَسْناءُ بالهَجرِ غِبْطةً … وَلا بَلّغَتْها مَن شكا الهَجرَ بالوَصْلِ

ذَرِيني أنَلْ ما لا يُنَالُ مِنَ العُلَى … فصَعْبُ العلى في الصّعب وَالسهلُ في السهلِ

تُريدينَ لُقيانَ المَعَالي رَخيصَةً … وَلا بُدّ دونَ الشّهدِ من إبَرِ النّحلِ

حَذِرْتِ عَلَينَا المَوْتَ وَالخَيلُ تدَّعي … وَلم تَعلَمي عن أيّ عاقِبَةٍ تُجْلي

وَلَسْتُ غَبِيناً لَوْ شَرِبْتُ مَنِيّتي … بإكْرَامِ دِلّيرَ بنِ لَشْكَرَوَزٍّ لي

تَمَرُّ الأنَابِيبُ الخَوَاطِرُ بَيْنَنَا … وَنَذْكُرُ إقْبالَ الأمِيرِ فَتَحْلَوْلي

وَلَوْ كُنتُ أدرِي أنّهَا سَبَبٌ لَهُ … لَزَادَ سُرُوري بالزّيادَةِ في القَتْلِ

فَلا عَدِمَتْ أرْضُ العِراقَينِ فِتْنَةً … دعَتكَ إليها كاشفَ البأس وَالمَحلِ

ظَلِلْنَا إذا أنْبَى الحَديدُ نِصَالَنَا … نجرّدُ ذكراً منك أمضَى من النّصْلِ

وَنَرْمي نَوَاصِيها منِ اسمكَ في الوَغى … بأنْفَذَ مِن نُشّابِنا وَمِنَ النَّبْلِ

فإنْ تَكُ منْ بَعدِ القِتالِ أتَيْتَنَا … فَقَدْ هَزَمَ الأعْداءَ ذِكرُك من قَبلِ

وَما زِلْتُ أطوي القلبَ قبل اجتِماعِنا … على حاجَةٍ بَينَ السّنابِكِ وَالسُّبْلِ

وَلَوْ لم تَسِرْ سِرْنَا إلَيكَ بأنْفُسٍ … غَرَائِبَ يُؤثِرْنَ الجِيادَ على الأهلِ

وَخَيْلٍ إذا مَرّتْ بوَحْشٍ وَرَوْضَةٍ … أبَتْ رَعْيَها إلاّ وَمِرْجَلُنَا يَغلي

وَلكنْ رأيتَ القَصْدَ في الفضْلِ شِركةً … فكانَ لكَ الفضْلانِ بالقصْدِ وَالفضْلِ

وَلَيسَ الذي يَتّبَّعُ الوَبْلَ رَائِداً … كمَنْ جاءَهُ في دارِهِ رَائِدُ الوَبْلِ

وَمَا أنَا مِمّنْ يَدّعي الشّوْقَ قَلبُهُ … وَيَحْتَجّ في تَرْكِ الزّيارَةِ بالشّغلِ

أرَادَتْ كِلابٌ أنْ تَفُوزَ بدَوْلَةٍ … لمن ترَكتْ رَعْيَ الشُّوَيهاتِ وَالإبْلِ

أبَى رَبُّها أنْ يترُكَ الوَحشَ وَحْدَها … وَأن يُؤمِنَ الضّبَّ الخبيثَ من الأكلِ

وَقَادَ لهَا دِلّيرُ كُلَّ طِمِرّةٍ … تُنيفُ بخَدّيهَا سَحُوقٌ من النّخلِ

وَكلَّ جَوَادٍ تَلْطِمُ الأرْضَ كَفُّهُ … بأغنى عنِ النّعْلِ الحَديد من النّعلِ

فَوَلّتْ تُريغُ الغَيثَ والغَيْثَ خَلّفَتْ … وَتَطلُبُ ما قَد كانَ في اليَدِ بِالرِّجْلِ

تُحاذِرُ هُزْلَ المَالِ وَهْيَ ذَليلَةٌ … وَأشْهَدُ أنّ الذّلّ شرٌّ من الهُزْلِ

وَأهْدَتْ إلَيْنَا غَيرَ قاصِدَةٍ بِهِ … كَريمَ السّجايَا يَسبِقُ القوْلَ بالفعلِ

تَتَبَّعَ آثَارَ الرّزَايَا بجُودِهِ … تَتَبُّعَ آثَارِ الأسِنّةِ بالفُتْلِ

شَفَى كُلَّ شَاكٍ سَيْفُهُ وَنَوَالُهُ … منَ الدّاءِ حتى الثّاكِلاتِ من الثكلِ

عفيفٌ تَروقُ الشمسَ صُورَةُ وَجهِه … فَلَوْ نَزَلَتْ شَوْقاً لحَادَ إلى الظّلِّ

شُجاعٌ كأنّ الحَرْبَ عاشِقَةٌ لَهُ … إذا زَارَهَا فَدّتْهُ بالخَيْلِ وَالرَّجْلِ

وَرَيّانُ لا تَصْدَى إلى الخمرِ نَفْسُهُ … وَصَدْيانُ لا تَرْوَي يَداهُ من البَذلِ

فتَمْليكُ دِلّيرٍ وَتَعْظيمُ قَدْرِهِ … شَهيدٌ بوَحْدانِيّةِ الله وَالعَدْلِ

وَمَا دامَ دِلّيرٌ يَهُزّ حُسَامَهُ … فَلا نَابَ في الدّنْيَا للَيثٍ وَلا شِبلِ

وَمَا دامَ دِلّيرٌ يُقَلّبُ كَفَّهُ … فَلا خلقَ من دعوَى المكارِم في حِلِّ

فَتًى لا يُرَجّي أنْ تَتِمّ طَهَارَةٌ … لمَنْ لم يُطَهّرْ رَاحَتَيْهِ من البُخلِ

فَلا قَطَعَ الرّحْمنُ أصْلاً أتَى بهِ … فإنّي رَأيتُ الطّيّبَ الطّيّبَ الأصْلِ