قد علم البين منا البين أجفانا – المتنبي
قَدْ عَلّمَ البَينُ مِنّا البَينَ أجْفانَا … تَدْمَى وألّفَ في ذا القَلبِ أحزانَا
أمّلْتُ ساعةَ ساروا كَشفَ مِعصَمِها … ليَلْبَثَ الحَيُّ دونَ السّيرِ حَيرانَا
ولوْ بَدَتْ لأتاهَتْهُمْ فَحَجّبَهَا … صَوْنٌ عُقُولَهُمُ من لحظِها صانَا
بالواخِداتِ وحاديها وبي قَمَرٌ … يَظَلُّ من وَخْدِها في الخِدرِ خَشيانَا
أمّا الثّيابُ فَتَعْرَى مِنْ مَحاسِنِهِ … إذا نَضاها ويَكسَى الحُسنَ عُرْيانَا
يَضُمّهُ المِسكُ ضَمَّ المُسْتَهامِ بهِ … حتى يَصيرَ على الأعكانِ أعكانَا
قد كنتُ أُشفِقُ من دَمعي على بصري … فاليَوْمَ كلُّ عزيزٍ بَعدَكمْ هَانَا
تُهدي البَوارِقُ أخلافَ المِياهِ لكُمْ … وللمُحِبّ مِنَ التّذكارِ نِيرانَا
إذا قَدِمْتُ على الأهوالِ شَيّعَني … قَلْبٌ إذا شِئْتُ أنْ أسلاكمُ خانَا
أبدو فيَسجُدُ مَنْ بالسّوءِ يذكُرُني … فَلا أُعاتِبُهُ صَفْحاً وإهْوَانَا
وهكَذا كُنتُ في أهْلي وفي وَطَني … إنّ النّفِيسَ غَريبٌ حَيثُمَا كَانَا
مُحَسَّدُ الفَضْلِ مكذوبٌ على أثَري … ألقَى الكَميَّ ويَلقاني إذا حَانَا
لا أشرَئِبّ إلى ما لم يَفُتْ طَمَعاً … ولا أبيتُ على ما فاتَ حَسرَانَا
ولا أُسَرّ بمَا غَيري الحَميدُ بهِ … ولَوْ حَمَلْتَ إليّ الدّهْرَ مَلآنَا
لا يَجْذِبَنّ رِكَابي نَحْوَهُ أحَدٌ … ما دُمتُ حَيّاً وما قَلقَلنَ كِيرانَا
لوِ استَطَعْتُ رَكبتُ النّاسَ كلّهمُ … إلى سَعيدِ بنِ عَبْدِالله بُعْرَانَا
فالعِيسُ أعْقَلُ مِنْ قَوْمٍ رَأيْتُهُمُ … عَمّا يَراهُ منَ الإحسانِ عُمْيانَا
ذاكَ الجَوادُ وإنْ قَلّ الجَوادُ لَهُ … ذاكَ الشّجاعُ وإنْ لم يرْضَ أقرانَا
ذاكَ المُعِدّ الذي تَقْنُو يَداهُ لَنَا … فَلَوْ أُصِيبَ بشيءٍ منهُ عَزّانَا
خَفّ الزّمانُ على أطْرافِ أُنْمُلِهِ … حتى تُوُهِّمنَ للأزْمانِ أزْمانَا
يَلْقَى الوَغَى والقَنَا والنّازِلاتِ بهِ … والسّيفَ والضّيفَ رَحبَ البال جذلانَا
تَخالُهُ من ذكاءِ القَلْبِ مُحْتَمِياً … ومن تَكَرّمِهِ والبِشْرِ نَشْوانَا
وتَسْحَبُ الحِبَرَ القَيْناتُ رافِلَةً … من جُودِهِ وتَجُرّ الخَيلُ أرْسَانَا
يُعْطي المُبَشِّرَ بالقُصّادِ قَبْلَهُمُ … كَمَنْ يُبَشّرُهُ بالمَاءِ عَطْشانَا
جَزَتْ بني الحَسَنِ الحُسنى فإنّهُمُ … في قَوْمِهِمْ مثلُهُمْ في الغُرّ عَدْنانَا
ما شَيّدَ الله مِنْ مَجْدٍ لسالِفِهِمْ … إلاّ ونَحْنُ نَراهُ فيهِمِ الآنَا
إنْ كوتبوا أوْ لُقوا أو حورِبوا وُجدوا … في الخَطّ واللّفظِ والهَيجاءِ فُرْسانَا
كأنّ ألسُنَهُمْ في النّطقِ قد جُعلَتْ … على رِماحِهِمِ في الطّعنِ خِرْصانَا
كأنّهُمْ يَرِدونَ المَوْتَ مِنْ ظَمَإٍ … أو يَنْشَقُونَ منَ الخطّيّ رَيحَانَا
الكائِنِينَ لِمَنْ أبْغي عَداوَتَهُ … أعدَى العِدى ولمن آخيتُ إخوانَا
خَلائِقٌ لوْ حَواها الزِّنْجُ لانْقَلَبوا … ظُمْيَ الشّفاهِ جِعادَ الشَّعرِ غُرّانَا
وأنْفُسٌ يَلْمَعِيّاتٌ تُحِبّهُمُ … لها اضطِراراً ولَوْ أقْصَوْكَ شَنآنَا
ألواضِحينَ أُبُوّاتٍ وأجْبِنَةً … ووالداتٍ وألْباباً وأذْهانَا
يا صائِدَ الجَحْفَلِ المَرْهوبِ جانِبُهُ … إنّ اللّيوثَ تَصيدُ النّاسَ أُحْدانَا
وواهِباً، كلُّ وَقْتٍ وقْتُ نَائِلِهِ … وإنّما يَهَبُ الوُهّابُ أحْيَانَا
أنتَ الذي سَبَكَ الأموالَ مَكْرُمَةً … ثمّ اتّخَذْتَ لها السُّؤَّالَ خُزّانَا
عَلَيْكَ منكَ إذا أُخليتَ مُرْتَقِبٌ … لم تأتِ في السّرّ ما لم تأتِ إعْلانَا
لا أسْتَزيدُكَ فيما فيكَ من كَرَمٍ … أنا الذي نامَ إنْ نَبّهْتُ يَقْظَانَا
فإنّ مِثْلَكَ باهَيْتُ الكِرامَ بِهِ … ورَدّ سُخْطاً على الأيّامِ رِضْوانَا
وأنْتَ أبعَدُهُمْ ذِكراً وأكْبَرُهُمْ … قَدْراً وأرْفَعُهُمْ في المَجدِ بُنْيَانَا
قد شَرّفَ الله أرْضاً أنْتَ ساكِنُها … وشَرّفَ النّاسَ إذْ سَوّاكَ إنْسانَا