يا والدي – جمال مرسي
يا و الدي ، إني هنـا يـا والـدي … لا زلت أقبعُ فـي جـوارِ الموْقِـدِ
بـردُ الشتـاءِ أصابنـي ، خبَّاْتُـهُ … تحتَ الثيابِ ، دفنتُهُ فـي مرْقـدي
لا زلتُ أجلـسُ و السكـونُ يلُفُّنـي … و الحزنُ يأكلُ في وعائي من يـدي
لا زال في جيْبـي خطـابٌ مُفْعَـمٌ … بالشوْقِ منكَ ، و لهفةٌ لـك تَبْـرُدِ
لا زالتِ الأوراقُ حيـرى تكتـوي … و يراعتي في غُربتي لـم تصمـدِ
تشكو إليكَ و حبرها مـن أدمعـي … بطشَ الذئابِ و قَسْوَةَ الزمنِ الـرَّدِي
الليلُ يزحفُ نحـوَ بابـيَ شاهـراً … سيفَ الظلامِ ، و قد تَرَبَّصَ بالغَـدِ
و الرِّيحُ تعوي خلفَ شُبّاكِ الأسـى … هلْ أدْرَكَتْ أني أعيشُ بمفـردي ؟
هل أدرَكَـتْ أنَّ الرفـاقَ تحمَّلـوا … قبلَ المغيبِ ، و ليس لي من مُنْجِدِ ؟
أم خافـت الريـحُ العقيـمُ فأقبَلَـتْ … نحوي لتلتمسَ الأمـانَ و تهتـدي ؟
أَتَضَوَّرَتْ جوعاً كنصفِ الأرضِ،أمْ … خارتْ من الحربِ التي لم تُخمـدِ ؟
أم أنهـا جـاءت بأسمـالٍ لـهـا … تُبدي الأسى من دونِ سابِقِ موْعِدِ ؟
يا والدي ، جاءَ الشتاءُ فيـا تُـرى … كم من فقيرٍ في الشقاءِ السرمـدي ؟
كم من أسيرٍ خلفَ جُـدرانِ العِـدا … أكلَ الخَشاشَ ، و سفَّ رملَ الفدفَدِ ؟
كم من بتـولٍ قـد أُبِيـحَ وقارُهـا … مـن ظالـمٍ متجـبِّـرٍ مُتَـمَـرِّد ؟
كم مـن غنـيٍّ موسِـرٍ و مُرَفَّـهٍ … أعطى بإخـلاصٍ و لـم يتـردَّدِ ؟
لمّا رأيتُ الليـلَ خـارجَ غرفتـي … مُتَوَشِّحـاً ثـوبَ الظـلامِ الأسـوَدِ
و رجعتُ بالعينينِ أقـرأُ مـا بهـا … و الضوءُ يكسوها ، و دفءُ الموقدِ
و الخيرُ ، كلُّ الخيرِ فـي أرجائهـا … فـي حُسْنِهـا المُتَأَلِّـقِ المُتـجـدِّدِ
أيقنتُ كـم حجـم النعيـمِ أعيشُـهُ … و بأنني في السـوءِ إنْ لـم أحمَـدِ
فَرَفعْتُ كفِّـي بالضَّراعَـةِ شاكـراً … للهِ ، لـم أفْـتُـرْ و لــم أتَبَـلَّـدِ
و دعَوْتُ ربِّـي أن يعُـمَّ رخـاؤُهُ … من كان يتَّبِـعُ الرسـولَ و يقتـدي
و ذكرتُ نبرةَ صوتِكَ الحُلْوِ الـذي … جابَ المكانَ كنسمَةِ الصُّبحِ النَّـدِي
فرأيتُ كيفَ الصُّبحُ يُسفِرُ ضاحِكـاً … من وجهِكَ الغَضِّ الجميـلِ الأملَـدِ
و سمعتُ شدوَ الطيرِ فـي همساتِـهِ … يحنو على القلـبِ العليـلِ المُسهَـدِ
ألقيـتُ حزنـي حينـذا ، أحرقْتُـهُ … في النَّارِ ، دونَ تكاسُـلٍ و تـردُّدِ
و حمدتُ ربَّ الكوْنِ فـي عليائِـهِ … أنْ كُنتَ أنتَ ، و ليسَ غيركَ والدي