ترنيمة للحب و البحر – جمال مرسي

وحيداً

أُطِلُّ على البحرِ أرقُبُ أمواجَهُ

و الظَّلامُ رُوَيداً رُوَيداً يسِيرُ إليهِ

تلُفُّ الخِضَمَّ مُلاءتُهُ

و السكونُ شِراعٌ تعرَّضَ في البحرِ

لوَّحَ لِي بالسَّلام .

و لا شيئَ حوليَ غيرُ الرِّمالِ

تُداعِبُها موجَةٌ في هُدوءْ .

و عيناكِ ترتسِمانِ على موجَتَينِ

كأنَّهما قمرانِ استفاقا لتوِّهما

مِن منام .

و قلبيَ قارَبُ عِشقٍ كبِيرٍ

تحمَّلَ بالشَّوقِ و الوردِ

و النَّرجِسِ الجَبَلِيِّ

ليُبحِرَ في مُقلتَيكِ

إليكِ

يُصارعَ كُلَّ لصوصِ البحارِ

ليرسوَ فوقَ شواطئِ قلبِكِ

حيثُ يطِيبُ المُقام .

فهلاَّ فتَحتِ موانِئَ عينيكِ للفارسِ العَرَبِِيِّ

فقد آَنَ بعد عناءِ الطَّريقِ الطَّويلةِ

أَن يسترِيحْ .

يجولَ بروضاتِ فُلِّكِ ،

كَرْزِكِ .

عِزِّكِ،

يقطِفَ ما شاءَ منها

و مِن ثَمَّ يغفُو على ساعِدَيكِ

و يكتُمُ أَسرارَ حِضنِكِ ـ يا عُمرَهُ ـ

لا يبُوحْ .

و كفُّكِ مِثلُ نسِيمِ الصَّباحِ

تمُرُّ برِفقٍ على وجنتيهِ

و تمسحُ عنهُ غُبارَ السِّنينَ

و نزفَ الجُروحْ .

أيا ربَّةَ البَحرِ :

يعلمُ فَارِسُكِ العربيُّ الجرِيحُ

بأنَّكِ آخرُ أسفارِهِ

مثلما كُنتِ أَوَّلَها للخُلود .

و يعلمُ أنَّكِ مهما ابتعدتِ

فأَنتِ القرِيبةُ

أَنتِ الحبِيبةُ

أَنتِ رسولُ الضِّياءِ إليهِ

و أَنتِ الحياةُ و نبضُ الورِيد .

أُحبُّكِ يا ربَّةَ البحرِ مُذ خلقَ اللهُ هذا الخِضَمَّ

و توَّجكِ العاشِقُونَ عليهِ الملِيكةَ

يأتَمِرُ الماءُ و المَوجُ

دَهراً بِأَمرِكْ .

و أَدفعُ عُمريَ ، مُلكيَ ، رُوحيَ

مَهراً لطُهرِكْ .

يُحدِّثُني البحرُ عنكِ

و كيفَ تلوَّنَ مِن مُقلتيكِ

و كيفَ اكتَسَت شمسُهُ حينَ نامت

على صدرهِ فِي الغُروبِ

بِتِبرِك .

يُحدِّثني عن لآلئَ خبَّأتِها خلفَ ثغرِك .

و عن ليلِهِ المُستحِمِّ بشَعرِك .

و عن موجِهِ كيف صارَ رقيقاً

إذا ما ترنَّمَ كالطَّيرِ صُبحاً بشِعرِك .

و لا يعلمُ البحرُ أنِّيَ أَعلمُ عنكِ الذي ليسَ يعلمُ

لكنَّني لا أَبُوحُ بِِسِرِّك .

و أنَّ السَّعادةَ ،

كُلَّ السَّعادةِ

قد ذُقتُها مُذ وقعتُ بأَسرِك .

و أنَّ الرَّبيعَ الذي عِشتُهُ في فرادِيسِ عينيكِ

كانَ الخرِيفَ قُبيلَ امتِطائِيَ صهوةَ بحرِك .

أُحِبُّكِ يا ربَّةَ البحرِ ،

هل تسمعِينَ وجِيبَ الفُؤادِ ، و نبضَ المِدادِ

و هل تشعُرِين بنارِ اشتِياقِيَ

يا شهرَ زادِي ؟

و هل تعلمِينَ بأنِّيَ ما كُنتُ يوماً أبوحُ

بما فِي الضُّلوعِ لغيرِك ؟

أيا رَبّةَ البَحرِ إِنِّي غرِيقٌ

يرومُ النَّجاةَ

و لا شيءَ ، لا شيءَ يُنقِذُهُ غير إِطلالةٍ

مِن نوافِذِ قصرِك .

فهل تُشرِقِينْ ؟

مدينةُ السَّرابِ

فرقٌ كبِيرٌ

أَنْ تكونَ يمِينُكَ البيضاءُ في نارٍ

و يُسراكَ الشقِيَّةُ فِي الجليدْ .

فرقٌ كبِيرٌ أَن تَهَاوى فوقَ رأسِكَ صخرةٌ

أَو أَن تَحُطَّ عَلى يَدَيكَ حمامةٌ

أَو زهرةٌ

فرقٌ كبِيرٌ بينَ شهدِكَ و الصَّدِيدْ .

يا أيُّها المسكونُ بالحزنِ العتِيقِ

هناكَ بَونٌ شاسِعٌ

بَينَ القَتامِ اْندَاحَ فِي أُفْقٍ ،

يُساقِطُ جمرَهُ فوقَ الغُصونِ و بينَ ضوئِكَ

يبعثُ الآمالَ في القلبِ العمِيدْ .

ما زِلتَ تبحثُ في منامِكَ عن رُؤىً

غيرِ التي زارتكَ عُمراً

لم تُحقِّقها

و لنْ .

فانفُض يدَيكَ من القتامِ ، مِن الأنامِ

مِن الرُّؤى

و اْرحل إلى النَّجمِ البعيدْ .

خمسُونَ لم تمنحْكَ غيرَ كثِيبِ رملٍ

في فلاةِ التِّيِهِ

ما إِن كُدِّسَت ذرَّاتُهُ نثرَتهُ رِيحٌ عاصِفٌ ،

و مدينةُ الأحلامِ وهمٌ كاذِبٌ

هِيَ كالسَّرابِ

و أَنتَ يَقتُلُكَ الصَّدى

فاصرِف عيونَكَ عن حدائقِها ،

و عن يَنبوعِها العَسَليِّ ،

عن قصرٍ مَشِيدْ .

ما زلتَ تزرعُ يَاسَمِينَكَ في القُلوبِ ،

و أَنتَ فلاَّحٌ أصيلٌ

كيفَ خانتكَ البصِيرةُ

أَنَّ زرعكَ قد يجِفُّ إذا تقلَّبتِ الفُصولُ

و أنَّ ماءَكَ قد يغورُ

و أنَّ جهدَكَ قد يبِيدْ ؟

يا أيُّها البحَّارُ قد رجموكَ بالموجِ العَتِيِّ

فأَحدثُوا خرقاً كبيراً في شِراعِكَ

هل ستغرَقُ يا أميرَ البحرِ

أم تُعطِي القراصِنةَ السِّلاحَ

ليذبحوكَ مِن الوريدِ

إلى الوريدْ ؟

يا أيُّها المسكُونُ بالنِّيِلِ / الفُراتِ

القُدسِ/ أَطفالِ النَّضارةِ

ما لَهُم قد جهَّزوا نعشاً بحجمِ الكونِ

ساروا في جنازتِكَ الكبيرةِ يضحَكونَ ،

يُقَهقهونَ ،

و يحتسونَ نبِيذَ أدمُعِهِم عليكَ

و أَنتَ حيٌّ فِي عُروقِ النَّرجِسِ الجَبَلِيِّ

تبسِمُ مثلما الفجرِ الولِيدْ .

لا لن تُشَكِّلَ عالماً أنَّى تشاءُ

فوجهُ أَرضِكَ غابةٌ

فيها ذِئابٌ تستبِيحُ براءةَ التُّولِيِبِ

في زمنِ التَّردِّي و اْندِياحِ سحائِبِ الفُسفورِ

و البارودِ

و اْستِنساخِ موتٍ تِلوَ موتٍ

من دماءِ حمامةٍ و عُروقِ زيتونٍ وئِيدْ .

لا لن تُشَكِّلَ عالماً

و الحُلمُ أبعدُ من حرِيرِ يديْنِ

كُبِّلتا بأصفادِ الحدِيدْ

فَاهرُب بحُلمِكَ عن عُيونِ الحاقِدِينَ

هناكَ تلقاها تُلوِّحُ في انتظارِكَ

بالأمانِي ، و الوُرُودْ .

و اشكُر لمن أَهدتكَ أَجنِحةَ التَّوَهُّجِ

كي تُحلِّقَ في فضاءٍ ليسَ فيهِ سِواكُما

و على حريرِ الصَّدرِ نَمْ

و احلُم هُنالِكَ من جدِيدْ .