وصول المعنى – أديب كمال الدين

ووصلتُ إليك أخيراً يا معناي، تعرّفتُ إلى أشكالكِ ذات

الوقعِ اللغزي: مربّع أطيافك، خطّ الحسراتِ الممتدّ

إلى دائرة ِالمنفى، ومثلثِ رغبتك الحيّ كما الأفعى،

ومعين الضحكِ الأعمى، وزوايا فجركِ، ليلكِ، نومكِ

وقت صراخ الشمس. تعرّفتُ إلى أشجارك: أشجارالجوعِ،

الموتِ، الغضبِ الأسودِ، والبومِ، البطن المملوءة، والكينونة

حتى أمسكتُ بأنهارك مستتراً من عريي الأزليّ: فرات

الأطفال يطير بعيداً عنّي، أغرقُ فيه، أضيعُ وأجلو

عن لغتي ألماً يعصرها، قيظا ًيوقدها تنمو، أتباركُ فيها،

أدخلها فتنامُ بساقٍ غامضةٍ نحو الأعلى فأدوخُ وأبكي، يهبطُ

فجر من قلبي وأدندنُ: جاءَ الطيرُ أخيراً من منفاه إلى

كفّي، استتري فيّ ولا تنهمري. صاحَ فراتُ الأجدادِ

المكتهلين بموت اللامعنى: انتبهِ اليوم لسرِّ الحرفِ

بموضعها وتموضعْ فيها واثمرْ فالعمرُ حديث خَرِف

يهذي. يهبط ُ فجرّ من قلبي. أهبطُ حتى الشارع،

في بيتِ القبلاتِ الثكلى أودعُ معناي وأصعدُ حتى

دجلة ذات الجسد العذب الشفتين فلا تعطيني إلاّ ما

تعطي سيّدة للبعلِ، فماذا أفعل؟ دوّخها مَن يملك

ساريةَ الأسمنت وسارية الدينار فلا تخفي وجع الضائع

مثلي. أمسكتُ بأنهاركِ مستتراً فرأيتُ بعيداً أبعد

منكِ وأقرب منّي نهراً أسود يصفرّ عليه الناسُ من

الخوفِ طويلاً، نهراً أبيض يسودّ عليه الناسُ من

الصحراء، ونهراً عذباً شاهدتكِ فيه بلا ثوبٍ نائمةً

منتصف الليل تئنّين إلى المعنى. ووصلت ُإليكِ أخيراً

وعبرت ُخليجَ الزمن الفاسد، أمسكت ُ بمستنقع أفعالٍ

يخفيها في لكنته، أمسكتُ الفعل َالحاضرَ، حاورتُ

السينَ بكتْ والراءَ احتدمتْ، ودخلتُ بأقواسٍ يخفيها

في خيمته، ودخلتُ الفعلَ الماضي أركب صيحاتي

و ذنوبي فانهار المستقبلُ قدّامي وتقزّم حتى أضحى

شمساً من أطفالٍ فعرفتُ الحقّ بعينيه الضيقتين، إذن:

ألقيتُ القبضَ على الكلّ وأدخلتُ الكلَّ جميعاً في

أزمنتي في قارورة أفعالي فاستتروا خوفاً

والكاف تناشدني ألاّ أنهار، فأهذي كالطودِ، أقومُ

أقاتلهم فرداً فرداً، تعطيني أخضرَ منحدراً من قائمة

الأعلى. فرحاً كنت أنادي أشياء بَعُدتْ فتعود إليّ ولم

تعرف أحداً، تذهل، تدهش، تمضي، وأحاور ما

قبلي ما بعدي، أستنجدُ بالكاف ِعلى نفسي فتجيبُ

عليّ وتفرحني. ووصلتُ إليك ِ بدمعي الأسود،

حاربت ُالوحش طويلاً بأصابع موتي حتى

حاصرني الفجرُ رمالاً ترقص، أخرجني من منفاي

وألقاني قدّام الليل وحيداً في نهر الريح. ومن أجلكِ

رأسي كان شجاعاً يرفضُ أن يؤوي قطاع الطرق

البلهاء وباعة ساعات رمادٍ تتطاير وسط العمبان.

وكان شجاعاً صنديداً إذ كيف لرأسٍ مقطوعٍ مُرمى،

في نهر الريح تدّلى، لملاقاةِ الموت يقوم وحيداً؟

كيف لرأس مقطوع أن يسمع، وسط الحومة،

أشجاراً مثقلةً بطيورٍ رسمتْ أسماء الحبّ عليها

وطفولات الماء؟ وكيف لرأسٍ مقطوعٍ أن يدخل في

حلمٍ يصهر أزمنة الدنيا حتى يأتيكِ ويكشف غامضكِ

السريّ وعريك ِعريّ أعمى؟ وصل الرأسُ إليكِ

بطيرِ الحاءِ وسحرِ الباء ومعجزةِ الكاف الكبرى. أمسك

في شغف ٍنزواتكِ، أربعةً من أطيافكِ، سبعاً من

لهجاتكِ، تاءً من لذتكِ القصوى. قام بأمطاركِ حتى

شفيتْ صحراؤك من أمراضِ الدنيا، قام الرأسُ إليّ

أخيراً، قبّلني، صاحَ بأعضائي فتنبّهتُ من الموتِ

إليك، وجدتُكِ عاريةً قربي. رجعَ الرأسُ إلى

جسدي، قال: أنا المعنى. فبكيت.

كلمات: سامي العلي

ألحان: سليمان الملا

2005