ملومكما يجل عن الملام – المتنبي

مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلامِ … وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الكَلامِ

ذَرَاني وَالفَلاةَ بِلا دَليلٍ … ……وَوَجْهي وَالهَجِيرَ بِلا لِثَامِ

فإنّي أسْتَرِيحُ بذي وَهَذا … وَأتْعَبُ بالإنَاخَةِ وَالمُقَامِ

عُيُونُ رَوَاحِلي إنْ حِرْتُ عَيني … وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةٍ بُغامي

فَقَدْ أرِدُ المِيَاهَ بِغَيرِ هَادٍ … سِوَى عَدّي لهَا بَرْقَ الغَمَامِ

يُذِمّ لِمُهْجَتي رَبّي وَسَيْفي … إذا احْتَاجَ الوَحيدُ إلى الذّمَامِ

وَلا أُمْسِي لأهْلِ البُخْلِ ضَيْفاً … وَلَيسَ قِرًى سوَى مُخّ النّعامِ

وَلمّا صَارَ وُدّ النّاسِ خِبّاً … جَزَيْتُ على ابْتِسامٍ بابْتِسَامِ

وَصِرْتُ أشُكُّ فيمَنْ أصْطَفيهِ … (لعِلْمي أنّهُ بَعْضُ الأنَامِ

يُحِبّ العَاقِلُونَ على التّصَافي … وَحُبّ الجَاهِلِينَ على الوَسَامِ

وَآنَفُ مِنْ أخي لأبي وَأُمّي … إذا مَا لم أجِدْهُ مِنَ الكِرامِ

أرَى الأجْدادَ تَغْلِبُهَا كَثِيراً … على الأوْلادِ أخْلاقُ اللّئَامِ

وَلَسْتُ بقانِعٍ مِن كلّ فَضْلٍ … بأنْ أُعْزَى إلى جَدٍّ هُمَامِ

عَجِبْتُ لمَنْ لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ … وَيَنْبُو نَبْوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ

وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي … فَلا يَذَرُ المَطيَّ بِلا سَنَامِ

وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً … كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ

أقَمْتُ بأرْضِ مِصرَ فَلا وَرَائي … تَخُبُّ بيَ الرّكابُ وَلا أمَامي

وَمَلّنيَ الفِرَاشُ وَكانَ جَنبي … يَمَلُّ لِقَاءَهُ في كُلّ عامِ

قَليلٌ عَائِدي سَقِمٌ فُؤادي … كَثِيرٌ حَاسِدي صَعْبٌ مَرَامي

عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَامِ … شَديدُ السُّكْرِ مِنْ غَيرِ المُدامِ

وَزَائِرَتي كَأنّ بهَا حَيَاءً … فَلَيسَ تَزُورُ إلاّ في الظّلامِ

بَذَلْتُ لهَا المَطَارِفَ وَالحَشَايَا … فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ في عِظامي

يَضِيقُ الجِلْدُ عَنْ نَفَسي وَعَنها … فَتُوسِعُهُ بِأنْوَاعِ السّقَامِ

إِذا ما فارَقَتني غَسَّلَتني … كَأَنّا عاكِفانِ عَلى حَرامِ

كأنّ الصّبْحَ يَطرُدُها فتَجرِي … مَدامِعُهَا بأرْبَعَةٍ سِجَامِ

أُرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيرِ شَوْقٍ … …مُرَاقَبَةَ المَشُوقِ المُسْتَهَامِ

وَيَصْدُقُ وَعْدُهَا وَالصّدْقُ شرٌّ … إذا ألْقَاكَ في الكُرَبِ العِظامِ

أبِنْتَ الدّهْرِ عِندي كُلُّ بِنْتٍ … فكَيفَ وَصَلْتِ أنتِ منَ الزّحامِ

جَرَحْتِ مُجَرَّحاً لم يَبقَ فيهِ … مَكانٌ للسّيُوفِ وَلا السّهَامِ

ألا يا لَيتَ شِعرَ يَدي أتُمْسِي … تَصَرَّفُ في عِنَانٍ أوْ زِمَامِ

وَهَلْ أرْمي هَوَايَ بِرَاقِصَاتٍ … مُحَلاّةِ المَقَاوِدِ باللُّغَامِ

فَرُبَّتمَا شَفَيْتُ غَليلَ صَدْرِي … بسَيرٍ أوْ قَنَاةٍ أوْ حُسَامِ

وَضَاقَت خُطّةٌ فَخَلَصْتُ مِنها … خَلاصَ الخَمرِ من نَسجِ الفِدامِ

وَفَارقْتُ الحَبيبَ بِلا وَداعٍ … وَوَدّعْتُ البِلادَ بِلا سَلامِ

يَقُولُ ليَ الطّبيبُ أكَلْتَ شَيئاً … وَداؤكَ في شَرَابِكَ وَالطّعامِ

وَمَا في طِبّهِ أنّي جَوَادٌ … أضَرَّ بجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ

تَعَوّدَ أنْ يُغَبِّرَ في السّرَايَا … وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ في قَتَامِ

فأُمْسِكَ لا يُطالُ لَهُ فيَرْعَى … وَلا هُوَ في العَليقِ وَلا اللّجَامِ

فإنْ أمرَضْ فما مرِضَ اصْطِباري … وَإنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعتزَامي

وَإنْ أسْلَمْ فَمَا أبْقَى وَلَكِنْ … سَلِمْتُ مِنَ الحِمامِ إلى الحِمامِ

تَمَتّعْ مِنْ سُهَادٍ أوْ رُقَادٍ … وَلا تَأمُلْ كرًى تحتَ الرِّجَامِ

فإنّ لِثَالِثِ الحَالَينِ مَعْنًى … سِوَى مَعنَى انتِباهِكَ وَالمَنَامِ