ما على القلب بعدكم من جناح – لسان الدين الخطيب
ما على القلب بعدكم من جناح … أن يرى طائرا بغير جناح
وعلى الشوق أن يشب إذا هب … بأنفسكم نسيم الصباح
جيرة الحي والحديث شجون … والليالي تلين بعد الجماح
أترون السلو خامر قلبي … بعدكم لا وفالق الإصباح
ولو أني أعطي اقتراحي على … الأيام ما كان بعدكم باقتراح
ضايقتني فيكم صروف الليالي … واستدارت علي دور الوشاح
وسقتني كأس الفراق دهاقا … في اغتباق مواصل باصطباح
واستباحت من جدتي وفتائي … حرما لم أخله بالمستباح
قصفت صعدة انتصاري وفلت … غرب عزمي المعد يوم كفاح
لم تدع لي من السلاح سوى مغفر … شيب أهون به من سلاح
عالجتني به وفي الوقت فضل … لاهتزازي إلى الهوى وارتياح
فكأن الشباب طيف خيال … أو وميض خبا عقيب التماح
ليل أنس دجى وأقصر بليل … جاذبت برده يمين صباح
صاح والوجد مشرب والورى صنفان … من منتش وآخر صاح
يا ترى والنفوس أسرى الأماني … مالها عن وثاقها من براح
هل يباح الورود بعد ذياد … أو يتاح اللقاء بعد انتزاح
وإذا أعوز الجسوم التلاقي … ناب عنه تعارف الأرواح
جاد عهد الهوى من السحب هام … مستهل الوميض ضافي الجناح
كلما اخضل الربوع بكاء … ضحكت فوقها ثغور الأقاح
عادني من تذكر العهد عيد … كان مني للعين عيد الأضاح
سفحت فيه للدموع دماء … فهي فوق الخدود ذات انسياح
وركاب سروا وقد شمل الليل … بمسح الدجى جميع النواحي
وكأن الظلام عسكر زنج … ونجوم الدجى نصول الرماح
حملت منهم ظهور المطايا … أي جد بحت وعزم صراح
ستروا الوجد وهو نار وكان الستر … يجدي لولا هبوب الرياح
خلفوني من بعدهم ناكس الطرف … ثقيل الخطا مهيضا جناحي
وحدوها مثل القسي ضمورا … قد برت منهم سهام قداح
وطووا طوع لاعج الشوق والوجد … إلى الأبطحي غبر البطاح
مصطفى الكون من ظهور النبيئين … هداة الأنام سبل الفلاح
حجة الله حكمة الله نور الله … في كل غاية وافتتاح
حاشر الخلق عاقب الرسل … والمثبت بالله بعدهم والماح
صاحب المعجزات لا يتمارى … العقل في آيها الحسان الصحاح
من جماد يقر أو قمر ينشق … والماء من بنان الراح
دعوة الأنبياء منتظر الكهان … دعوى البشير باستفتاح
مظهر الوحي مطلع الحق معنى الخلق … فتح المهيمن الفتاح
أي غيث من رحمة الله هام … وسراج بهديه وضاح
ما الذي يشرح امرؤ في رسول … عاجل الله صدره بانشراح
شقه الروح ثم طهر منه القلب … من بعد بالبرود القراح
مدحتك الأيات يا خاتم الرسل … فمن لي من بعدها بامتداح
ولعجز النفوس عن درك الحق … وإيقافها وقوف افتضاح
مثل الله نوره في المثاني … بمثال المشكاة والمصباح
فأزل خجلتي بإغضائك المأمول … واستر به عوار افتضاح
صلوات الله يا نكتة الكون … على مجدك اللباب الصراح
عدد القطر والرمال وما … عاقب دهر غدوه برواح
وجزاك الإله أفضل ما يجزى … كرام الأيمة النصاح
أسفي كم أرى طريد ذنوب … أو بقتني فليس لي من سراح
قد غزتني الخطوب غزو الأعادي … وبرتني الهموم برى قداح
سبق الحكم واستقل وهل يمحى … قضاء قد خط في الألواح
لا لدنيا جنحت آلغ فيها … لا لدين خلصت لا لصلاح
قاطعا في الغرور برهة عمري … خسرت صفقتي وخابت قداحي
طمع الشيب باللجام المحلى … حين أجريت أن يرد جماح
فأبت نفسي اللجوج وجدت … في سمو إلى الهوى وطماح
يا طبيب الذنوب تدبيرك الناجع … في علتي ضمين النجاح
يا مجلي العمى وكافي الدواهي … ومداوي المرضى وآسي الجراح
سد باب القبول دوني ومالي … يا غياثي سواك من مفتاح
خصك الله بالكمال وزند الكون … لم تقترن بكف اقتداح
قبل أن يوجد الوجود وأن يتحف … بالنور ظلمة الأشباح
وأضاءت من نور ميلادك الأرض … وهزت له اهتزاز ارتياح
فسرى الخصب في الجسوم الهزالى … وجرى الرسل في الدروع الشحاح
ولقد رعيت لديه حقوق … أقطعتها العدا جناب اطراح
بمعالي محمد بن الحجاج … ليث العدا أو غيث السماح
ناصر الحق مرسل النقع سحبا … بين سمر القنا وبيض الصفاح
ومزير الجياد أرض الأعادي … وهي مختالة لفرط المراح
يتلاعبن بالظلال عرابا … غذيت في الفلى لبان اللقاح
يا سراج النادي وحتف الأعادي … وعماد الملك الكريم المناح
جمع الله من حلى آل عباس … لعلياك في سبيل امتداح
بين رأي موفق واعتزام … مستعين وصارم سفاح
وخفضت الجناح في الأرض حتى … لم تدع فوق ظهرها من جناح
أنت مصباحها ونور دجاها … دافع الله عنك من مصباح
محض الله منك ياقوتة الملك … وينبوع العدل والإصلاح
بخطوب أرت حديث سليمان … وجاءت بالحادث المجتاح
بيدي هلهل الحجا فاقد الدين … أخي جرأة ورب اجتراح
نال منها عقبى مسيلمة الكذاب … إذ عاند الهوى وسجاح
ثم رد الأمور ردا جميلا … لك من بعد فرقة وانتزاح
فاجزه في الورى الجميل وعامل … منه كنز الغنى ومثوى الرياح
واشتر الحمد بالمواهب واعقد … عقدها في مظنة الأرباح
بركات السماء تبتدر الأرض … إذا استودعت بدور السماح
وتهنأ به بناء سعيدا … جاء المعلوات وفق اقتراح
وتمتع منه بهالة ملك … أطلعت منك أي بدر لياح
مشور الرأي مجمع الحفل مثوى … كل ذمر وسيد جحجاح
ومقام السلام في مدة السلم … وغاب الأسود يوم الكفاح
ملتقى حكمة وملقب الهام … ومغنى السرور والأفراح
أين كسرى أو أين إيوان كسرى … لا يقاس الخضم بالضحضاح
أين نور الإله من عنصر النار … إذا ما اعتبرته يا صاح
بنية كان فخر ماله مذخورا … كزهر الرياض في الأدواح
حين طاب الزمان واعتدل الفصل … استجدت وبادرت بافتتاح
هاكها قد تتوجت بالمعاني … واكتست حلة اللغات الفصاح
حين غاض الشباب وارتجع الفكر … وضاق خطو القريض الساح
جهد قلب لفقت بعد جهاد … نقطة من قليبه الملتاح
ومعاني البيان هن عذارى … لا يبحن الشيوخ عقد نكاح
ما لشيخ سوى الرجوع إلى الله … ونجوى أهل التقى والصلاح
ولزوم الباب الذي جبر الكسر … ووصل السؤال والإلحاح
وعلى ذلك فهي ساحرة الأحداق … تزري بكل خود رداح
تنفث السحر في الجفون وتلوى … طرر الحسن للوجوه الملاح
دمت في عزة ورفعة قدر … بين مغدى موفق ومراح
ما تولت دهم الدجنة عدوا … وجرت خلفهن شهب الصباح