ما رَشَأ الأنسِ بمستأنِس – ابن الرومي
ما رَشَأ الأنسِ بمستأنِس … إلى بياض الشَّعَر المُخْلِسِ
بل صَدْفة ُ المبغض من حُكمه … في الشيب تتلو نظرة المُبلِسِ
وصحبة ُ المعتِم من شأنِه … وليس منه صحبة ُ المغلسِ
ماذا على الدهر وعَوْداته … لو صاح يا ليل الصِّبا عسعسِ
فاسودَّ مبيضٌّ كسا نُورُهُ … قَلْبي ظلاماً حالك الطرمسِ
أستلبِسُ الله النُّهى إنه … أحْصَنُ ملبوس لمستلبسِ
فاجأني الشيب على صبوة ٍ … أيُّ يد في الغيِّ لم تَغمِسِ
نورٌ ونار لهما وقدة ٌ … لو قُرِنا بالماء لم يَجمُسِ
ما أعدلَ الحبّ على جَورهِ … في خُلطة الأحمقِ والكيِّس
قلبي على وعظ النهى مولع … بجالبٍ للداء مستنكِس
أحببت روداً من بنات الصبا … أي بنات القلب لم تَخلِس
منَّاعة ً للرشف منَّاحة ً … للطرف إن تُبَرئْكَ تستنكِس
ترنو بطرف مؤنِس قاتلٍ … لولا عمى الأهواء لم تؤنس
لا عوقبتْ نحلة لِمْ حلأَّت … عن ريقها حائمة َ المخمُس
ضَنَّت بماء العيشِ لكنها … من يقتَبسْ نار الجوى تُقبِس
يا نحلة َ الشهد التي أيأست … منه وإن غرت فلم تُؤيس
ما حققتْ معنى اسمها نحلة ٌ … قيل أقلسي أَرياً فلم تَقلِس
يا هل أحسَّت ليلة المنحنَى … أم ذهلت عنّي فلم تَحسس
وسَواسُ وجدٍ ضافني هاجَهُ … وسواسُ حَليٍ ضافها مُجرِس
كأنما ناجى به صدرُها … صدري فماذا فيه لم يَهجس
يا أيها السَّامي بألحاظه … للبيض في البيض ألا نكِّس
تلك المها أصبحن مثل المها … ليست لقُنّاصِ بني سِنْبس
قالت لك العينُ وآرامُها … ما أنت بالمرعَى ولا المكنِس
أخْيَبُ ذي قوسٍ رمى ظبية ً … من هتف الدهر به قَوِّس
فلا تَعُوجَنَّ على قاطعٍ … مطية َ الوصل ولا تَحبِس
واعدل إلى ذي خُلة ٍ حافظٍ … معاهدَ المورِقِ في المؤيس
كالأَردشيريِّ الذي بَيَّنَتْ … في عُودِه حُرِّية المغرِس
بلّغْ عبيد الله مُلِّيتَهُ … أني إذا ما غاب في مَحْبس
لكنني ما دمتُ في ظِلِّه … من غامر النعمة في مَغمسِ
يا واهب التاج الذي لم يزل … من زينة اللابس والمُلْبِس
أقسمتُ بالمجد وأسبابه … إنك منه غيرُ ما مُفْلس
نفَّلتني ودَّ عقيدِ الندى … عفواً بجدواك ولم تَعبِس
ودَّ المكنى لا تُحابَى به … باسم رسول المنعِم المبئس
الحسنِ المحسنِ في فعله … أنفِسْ به من عُقدة ٍ أنفس
آنسني والدهر لي مُوحشٌ … بمؤنسٍ ناهيكَ من مُؤنِس
بمُفضلٍ ما شئتَ من مُفضلٍ … ومُقبسٍ ما شِئتَ من مُقبِس
منبلج الرأي غزير الندى … صاحب يوم مُمْطرٍ مُشمس
نواله كالغيث في أزمة … ورأيه كالنجمِ في حِنْدِس
إذا قضى بالحدس ذو شُبهة … تتبَّع الحق ولم يَحدس
من آل وهبٍ شاد بنيانه … كلُّ أشمّ المجد والمعْطِس
بدرُ سماء وسناً باهرٍ … لا يمحق الله ولا يَطمس
أسعدُ بالحلم من المشتري … وبالحجى والعلم من هِرْمس
حرٌّ متى يظفر بذي ذلة ٍ … يغفر ولا يظفرْ ولا يَضْرس
يَعفو إذا الجاني ابتغى عَفْوَهُ … لكنه فارسٌ مُستفْرِس
ممن إذا أُغْضِبَ في قُدرة … كقُدرة ِ القَسْور لم يفرِس
يقابلُ الحسنى بأمثالها … ويقرعُ الدهرِسَ بالدهرس
مَكايدُ من مَسَّحتْ عِطفَهُ … مسَّحه الحَيْنُ فلم يَشْمس
يأخذ بالعينين أخذَ العمى … ويَعقِل الرِّجْلَين كالنِّقرس
خِرق إذا أسنى أفاعيلَهُ … قال لِمُسني شكرِه خسِّسِ
طالبَ تسهيلٍ على شاكرٍ … لا زاهداً في راغبٍ مُنفس
وذاك أدعى لذوي حمدهِ … إنْ سمعت فطنة ُ مستوْجسِ
فما يزال الدهر مستوفياً … للحمد في صورة مُسْتَبْخِس
مُقتسمٌ بين صبا ذي النهى … وحكمة ِ المُوضِح لا المشْكِس
فلسفة ٌ شَفْعُ مُلوكِية ٍ … أظرِفْ بمن حازهما أَنطِس
إذا صَبتْ زُهْرتُه صبوة ً … قال لها هِرمسُه هَندِس
وإن عدا هِرْمسه حدَّهُ … قالت له زُهْرتُه نفِّس
فما اجتلاهُ غير مُستحسن … ولا ابتلاهُ غيرُ مستنْفس
كم مجلسٍ مرَّ له كلهُ … كأنه باكورة المجلس
ذكَّرني فيه بأخلاقه … دمع الندى في حَدَق النرجس
أرْجو سنائي لمُجازاتِه … لكنني راجٍ كمستيئس
كيف أجازي كوكباً نيِّراً … أسْعد أيامي ولم يُنحس
لو لم تر السبعة َ بمثاله … في اللَّوح لم تَجْر ولم تكْنِس
ولو أطاعتها مقاديرُها … جرتْ لتلقاهُ ولم تخنس
يُطمعني في شكره قدرتي … على القريض المُطمِع المؤيس
وتارة ً يُؤيسُني أَنني … أَحْزنتُ في الشكر ولم أُدهِس
شكر امرىء ٍ قصَّر عن شكره … أقصى حَويلِ الماتح الممرِس
مستأنس الجزء إلى قبضتي … والكلّ منه غير مستأنس
يا أيها المُوجس في نفسه … خوفاً من الأيام لا توجس
لله بالشام وفي بابلٍ … بيتان بيتُ القدس والمقدِس
بيتٌ قديم ذائعٌ ذكرهُ … وبيتُ شاهٍ بالعلا مُعرس
يُصبح من حاول مَعْروفَهُ … مُلتمساً أفضى إلى مُلمِس
ولا ترى راحتُهُ عِرمِساً … عند مُناخ الرِّسْلة العِرمس
بين أياديه وأيامنا … تفاوتُ الناعس والمُنعِس
من آل وهبٍ شاد بنيانَهُ … كلُّ أَشَمِّ المجدِ والمعطِس
وعرضه أملسُ ما خيَّمتْ … آمال راجيه على أمْلَسِ
أستحرِس الله له إنه … أفضل محروسٍ لمستحرِس
المُنطِق المخرسُ سَقياً له … رعْياً له من مُنطقٍ مُخرِس
أنطق مُدَّاحاً وكَمَّتْ به … أفواهُ حسَّادٍ فلم تَنْبِس
ومدحه المأخوذُ من مجدِه … ما قال لي وجدي به دَلِّسِ
بل قال أجلي الليل عن صُبحه … للعين فاصدقْ عنه أو لبِّس
وسائل عنه وعن أهله … قلتُ له جهراً ولم أهمس
أنت الذي أحوجهُ جَهْلهُ … في رؤية الشمسِ إلى مَقْبِس
بلَغْتهمْ فاحطُطْ بوادِيهمُ … تحططْ بأحوَى النبتِ مُسْتَحلس
لا خير في نزع يدي نابلٍ … بعد لحوق النَّصل بالمعجس
لآل وهبٍ مِننٌ جَمَّة ٌ … من يَرَها من حاسدٍ يُبلس
كم قال لي تأمِيلهُم سِرْ بنا … وقال لي تمويلهم عَرِّس
كم زوَّجتني بدأة ٌ منهمُ … وقالتْ العودة لي أعرِس
غَرَستُ أنواعاً فما أثمرتْ … وأثمروا لي حيثُ لم أغرِس
قلتُ لمن قال استزِد فَضْلَهم … جاهِرْ بتهديدك أو وسوِس
أَصابعي خمسٌ حباني بها … من لا يراني قائلاً سَدِّس
سمعاً بني وهبٍ فلم أستعِر … لكم حُليَ قومٍ ولم أعكس
ما قلتُ إلا بعض ما فيكُم … فليقُمْ الحاسد وليجْلس
لم أهتضمْ دِيني ولم أنتهك … عرضي بما قلت ولم أدْنِس