ضروب الناس عشاق ضروبا – المتنبي

ضُرُوبُ النّاسِ عُشّاقٌ ضُرُوبَا … فأعذَرُهُمْ أشَفُّهُمُ حَبِيبَا

وما سَكَني سِوَى قَتْلِ الأعادي … فهَلْ من زَوْرَةٍ تَشفي القُلوبَا

تَظَلّ الطّيرُ منها في حَديثٍ … تَرُدّ بهِ الصّراصِرَ والنّعيبَا

وقد لَبِسَتْ دِماءَهُمُ عَلَيْهِمْ … حِداداً لم تَشُقّ لَهُ جُيُوبَا

أدَمْنا طَعْنَهُمْ والقَتْلَ حتى … خَلَطْنا في عِظامِهِمِ الكُعُوبَا

كأنّ خُيولَنا كانَتْ قَديماً … تُسَقّى في قُحُوفِهِمِ الحَليبَا

فَمَرّتْ غَيرَ نافِرَةٍ عَلَيْهِمْ … تَدوسُ بنا الجَماجِمَ والتّريبَا

يُقَدّمُها وقد خُضِبَتْ شَواهَا … فَتًى تَرْمي الحُرُوبُ بهِ الحُرُوبَا

شَديدُ الخُنْزُوانَةِ لا يُبَالي … أصابَ إذا تَنَمّرَ أمْ أُصِيبَا

أعَزْمي طالَ هذا اللّيلُ فانْظُرْ … أمِنْكَ الصّبْحُ يَفْرَقُ أنْ يَؤوبَا

كأنّ الفَجْرَ حِبٌّ مُسْتَزارٌ … يُراعي مِنْ دُجُنّتِهِ رَقِيبَا

كأن نُجُومَهُ حَلْيٌ عَلَيْهِ … وقد حُذيَتْ قَوائِمُهُ الجَبُوبَا

كأنّ الجَوّ قاسَى ما أُقاسِي … فصارَ سَوادُهُ فيهِ شُحُوبَا

كأنّ دُجاهُ يَجْذِبُها سُهادي … فَلَيسَ تَغيبُ إلاّ أنْ يَغيبَا

أُقَلّبُ فيهِ أجْفاني كأنّي … أعُدّ بهِ على الدّهرِ الذّنُوبَا

وما لَيْلٌ بأطْوَلَ مِنْ نَهارٍ … يَظَلّ بلَحظِ حُسّادي مَشُوبَا

وما مَوْتٌ بأبْغَضَ مِنْ حَياةٍ … أرَى لَهُمُ مَعي فيها نَصيبَا

عَرَفْتُ نَوائِبَ الحَدَثانِ حتى … لَوِ انْتَسَبَتْ لكُنتُ لهَا نَقيبَا

ولمّا قَلّتِ الإبْلُ امْتَطَيْنَا … إلى ابنِ أبي سُلَيْمانَ الخُطُوبَا

مَطايا لا تَذِلّ لمَنْ عَلَيْهَا … ولا يَبغي لهَا أحَدٌ رُكُوبَا

وتَرْتَعُ دونَ نَبْتِ الأرْضِ فينا … فَما فارَقْتُها إلاّ جَدِيبَا

إلى ذي شِيمَةٍ شَغَفَتْ فُؤادي … فلَوْلاهُ لقُلْتُ بها النّسيبَا

تُنازِعُني هَواها كلُّ نَفْسٍ … وإنْ لم تُشْبِهِ الرّشَأ الرّبِيبَا

عَجيبٌ في الزّمانِ وما عَجيبٌ … أتَى مِنْ آلِ سَيّارٍ عَجيبَا

وشَيْخٌ في الشّبابِ ولَيس شَيخاً … يُسَمّى كلُّ مَن بَلَغَ المَشيبَا

قَسَا فالأُسْدُ تَفْزَعُ مِن يَدَيْهِ … وَرَقّ فنَحنُ نَفزَعُ أن يَذوبَا

أشَدُّ منَ الرّياحِ الهُوجِ بَطشاً … وأسرَعُ في النّدى منها هُبُوبَا

وقالوا ذاكَ أرْمَى مَنْ رَأيْنَا … فقُلْتُ رَأيْتُمُ الغَرَضَ القَريبَا

وهَلْ يُخْطي بأسْهُمِهِ الرّمَايَا … وما يُخْطي بما ظَنّ الغُيُوبَا

إذا نُكِبَتْ كَنائِنُهُ اسْتَبَنّا … بأنْصُلِها لأنْصُلِها نُدُوبَا

يُصيبُ ببَعْضِها أفواقَ بَعضٍ … فلَوْلا الكَسرُ لاتّصَلَتْ قَضِيبَا

بكُلّ مُقَوَّمٍ لم يَعْصِ أمْراً … لَهُ حتى ظَنَنّاهُ لَبِيبَا

يُريكَ النَّزْعُ بَينَ القَوْسِ منْهُ … وبَينَ رَمِيّهِ الهَدَفَ اللّهِيبَا

ألَستَ ابنَ الأُلى سَعِدوا وسادوا … ولم يَلِدوا امرَأً إلاّ نَجِيبَا

ونالُوا ما اشْتَهَوْا بالحَزْمِ هَوْناً … وصادَ الوَحشَ نَملُهُمُ دَبِيبَا

وما ريحُ الرّياضِ لهَا ولَكِنْ … كَساها دَفنُهُمْ في التُّرْبِ طِيبَا

أيَا مَنْ عادَ رُوحُ المَجْدِ فيهِ … وصارَ زَمانُهُ البالي قَشيبَا

تَيَمّمَني وكيلُكَ مادِحاً لي … وأنْشَدَني مِنَ الشّعرِ الغَريبَا

فآجَرَكَ الإلهُ على عَليلٍ … بَعَثْتَ إلى المَسيحِ بهِ طَبِيبَا

ولَسْتُ بمُنكِرٍ مِنْكَ الهَدايَا … ولَكِنْ زِدْتَني فيها أدِيبَا

فلا زالَتْ دِيارُكَ مُشرِقاتٍ … ولا دانَيتَ يا شَمسُ الغُرُوبَا

لأُصْبِحَ آمِناً فيكَ الرّزايا … كمَا أنَا آمِنٌ فيكَ العُيُوبَا