ديوان المقابلات – أديب كمال الدين

مقابلة أولى

آراء

قلْ لهذي القصيدة

إن أرادت شموسَ البهاء،

أن تراجعَ في كلّ حين

ابتسامتها المؤسية

أن تغني قليلاً لأشجارها المثمرات الخيال

كي تسكّن أوجاعها

لحظةً ثم ترتدَّ في سيرها

حيثما ينشر السرُّ أعضاءه الغامضة.

قلْ لهذي القصيدة

إن أرادت شموس الندى

أن تفكّر حتى النخاع بأسمائها،

أرضها القلقة البكر، أحداقها

غيمها، وردها الأسود المنتشرْ

أن تفكّر حتى النخاع بخطواتها

كي تقول

كلْمة ًواحدة

كلْمةً مثقلة

كلْمةً من ربيع الصفاءْ.

قلْ لهذي القصيدة

وهي تجلس

بين أوراقها الطفلة الصامتة

مثل رأس مُعذّب:

كيف يمكن

للعصافيرِ والبومِ والنسرِ في لحظةٍ مذهلة

أن تغني نشيد الحياة

كيف يمكن

كسرُ بابين في غرفة واحدة

دونما أيّ ذكرى

فتحُ عينين في جثةٍ

دونما أيّ عيب؟

ضيف

لاشيء، إذن، غير الأشعار تجيء

كي توقظني من نومي الأسود

وبكائي الأسود

ودمي.

لا شيء إذن،

هي ذي تأتي

فأكون الخيمة والعاشق

وأكون كؤوس القهوة

وغيوم الألفة والنوم الأبيض

وأكون الثلج القابع في الكأس

هي ذي تأتي

كي توقظني ودمي الأسود.

هي ذي تأتي كي تتحدث

عن أزهار الروح

أو عن أحلام ثياب مهملة في الشارع

تخطو في أحيان غامضة كالعشبِ النديان

تأتي كي ترسم في أفقي منفى

وممالك قاسية الفكّين،

أنهاراً لنساءٍ يصخبن ويكذبن

تخطو بدمي كالفجر المجنونْ.

مقابلة ثانية

الصوت والصدى

أ ـ الصوت

في الليلِ الأسود

يتحدثُ هذا القلبُ الغامض

بحديث ٍغامض

عن مدن وشوارع مرّتْ

كقطارٍ مزدحمٍ مهموم

عن أصواتٍ ضاعت

ونساء يبكين الظلّ

أو أحجار الظلْ.

في الليلِ الأسود

يتحدثُ هذا القلبُ الغامض

عن حرفٍ

استلقى فوق فراش الأرض وغطّى

عينيه بقبعة الحلم البيضاء

عن حرفٍ ممتلىْ بأنينِ الأشياء

عن حرفٍ محترقٍ مجنون.

في الليلِ الأسود

يتحدثُ هذا القلبُ الغامض

عن أنهار تأتي أو ترحل ضاحكةً

بثياب الفجر

وحبال غطّتْ هامتها بغيوم الثلج،

وطيور قد هرعتْ كالطلقات المتلاحقة

من وقع خطى الصيادين.

في الليلِ الأسود

يتحدثُ هذا القلب الغامض،

كي ينسى شيئاً

أو يذكّر شيئاً

لينام.

ب ـ الصدى

من أي ّبحارٍ أو وديان أو أشجار

يأتي هذا الصوتُ البشريّ الغامض،

يأتي هذا الحلمُ الأسود

كي يوقظني من صحوي أو نومي؟

من أيّ جبالٍ أو أمطارٍ أو أصقاع

يأتي هذا الزائر؟

ولماذا يتركني حيناً كالغيم العاثر

حيناً فستاناً

لعروس مجنوناً بالقبلات؟

من أيّ نبوءاتٍ أو أحجارٍ أو أحداق

يأتي كرنين الأقنعة السود

ليشتت تيجاني

يرميها في الشارع

أو في أمواج النهر الصاخب

ليُشتت أحرفي الزرق

يرميها في الليلِ المتوحش

أو يرميها ـ أبداً ـ في النار؟

مقابلة ثالثة

ملاحظتان عن الأشجار

أ

كانت أشجاري في الشمس

وأنا أتفيأ ظلّ الراحةِ تحت مياسمها الخضر

فرحاً فالظلُ ودود والشمس

تهدي مابين الأغصانْ

قسطاً من ضوء يحوي

شيئاً من فرحي الأسطوريّ،

جسدي النائم

في كرسيّ من ذاكرة الأشجارْ.

جاءت عاصفةُ زرقاء

هّزت أوراق الخضرة

أغمضتُ عيوني

ونظرتُ:

أتغادرني الأشجارْ؟

الأشجار قوية

والجذر الأسود يربطها برنينِ الأرضِ الغامض

والبحرِ، ربيعِ الرّب

أأغادرها؟

وتجيء العاصفة الزرقاء فيبكي

قلبُ الأشجار بصمتٍ، لكن الأغصانْ

لا تملك أن تخفي شيئا ًفتضجّ جميعاً.

أغمضتُ عيوني

ونظرتُ:

ستظل هنا الأشجار

تحمل أحرفها،

خفقَ الكون النائم فيها

إذ من يقدر

أن ينزع منها حرفاً أو حرفين

لتصير “شجاراً” أو ” شاراً”؟

مبتسماً

تحت الأشجار بوجه شاحبْ

أتفيّأ عاصفة ًستمرّ و تذهب

أتفيّأ خفقَ الكونِ، ربيعَ الربّ،

فرحي الأسطوريّ

وأغنيّ

ثملا ًمن شدّة حزني:

ستظلّ هنا الأشجار

في القلب

في شمس القلب.

ب

شجر مقطوعُ الكفين

شجر يحوي بضعَ حمامات

تأتي وتروح

في بعض سماءْ

شجر يدخل مثل العمر المذهول

حجراتِ دمي الساكنة الأبواب

يتبّسم طفلاً مرحاً من دون عناء

أو طفلاً يخفي صيحات الدمع المتناثر

في حضرةِ كفِّ الأم

ويجالسني.

ويجالسني دوماً

ليدخن أو يحلم

في ذكرى أشياء غامضةٍ.

مرّات إذ يغضب ُمن لا جدوى الحلم الضيّق:

(بضع حمامات

تأتي و تروح

في بعض سماءْ)

في شرفة نومي

يدخلُ كي ينسى بعض الوقت ويوصدها

بالمفتاح الأخرس

فأقومُ، لأبحثَ عنه،

مثل الأعمى.

مقابلة رابعة

أغنيتان

(1)

غربة في الجسدْ

قد أقام بأحداقها الليلُ

ضاحكاً كالبكا واللهبْ

غربة في الجسدْ

بويعت في غياب الجسدْ.

(2)

آهِ عاد السنونو لأعشاشه

ضاحكاً كالنسيم العليل

آهِ عادت طيورُ البحار البعيدة

والعصافير

والذئابُ الغريبة

آهِ عادت خطى العاشق، العاشقة

والسنين المريرة،

والمغني العجوز،

آهِ عادت خطى الله

آهِ عادت خطى كلّ شيء ولكنني

لم أعد منذ مليون عام وحيداً

أشيب الرأس مكتهلاً

بالعذابِ، إذن

فلأغنِ بصوتٍ خفيضٍ لأسأل

كلّ شيء يمرّ

هل تراني أعود؟ لماذا؟ لمن؟