حتام نحن نساري النجم في الظلم – المتنبي

حَتّامَ نحنُ نُساري النّجمَ في الظُّلَمِ … ومَا سُرَاهُ على خُفٍّ وَلا قَدَمِ

وَلا يُحِسّ بأجْفانٍ يُحِسّ بهَا … فقْدَ الرّقادِ غَريبٌ باتَ لم يَنَمِ

تُسَوِّدُ الشّمسُ منّا بيضَ أوْجُهِنَا … ولا تُسَوِّدُ بِيضَ العُذرِ وَاللِّمَمِ

وَكانَ حالهُمَا في الحُكْمِ وَاحِدَةً … لوِ احتَكَمْنَا منَ الدّنْيا إلى حكَمِ

وَنَترُكُ المَاءَ لا يَنْفَكّ من سَفَرٍ … ما سارَ في الغَيمِ منهُ سارَ في الأدَمِ

لا أُبْغِضُ العِيسَ لكِني وَقَيْتُ بهَا … قلبي من الحزْنِ أوْ جسمي من السّقمِ

طَرَدتُ من مصرَ أيديهَا بأرْجُلِهَا … حتى مَرَقْنَ بهَا من جَوْشَ وَالعَلَمِ

تَبرِي لَهُنّ نَعَامُ الدّوّ مُسْرَجَةً … تعارِضُ الجُدُلَ المُرْخاةَ باللُّجُمِ

في غِلْمَةٍ أخطَرُوا أرْوَاحَهُم وَرَضُوا … بمَا لَقِينَ رِضَى الأيسارِ بالزَّلَمِ

تَبدو لَنَا كُلّمَا ألْقَوْا عَمَائِمَهمْ … عَمَائِمٌ خُلِقَتْ سُوداً بلا لُثُمِ

بِيضُ العَوَارِضِ طَعّانُونَ من لحقوا … مِنَ الفَوَارِسِ شَلاّلُونَ للنَّعَمِ

قد بَلَغُوا بقَنَاهُمْ فَوْقَ طاقَتِهِ … وَلَيسَ يَبلُغُ ما فيهِمْ منَ الهِمَمِ

في الجاهِلِيّةِ إلاّ أنّ أنْفُسَهُمْ … من طيبِهِنّ به في الأشْهُرِ الحُرُمِ

نَاشُوا الرّماحَ وَكانتْ غيرَ ناطِقَةٍ … فَعَلّمُوها صِياحَ الطّيرِ في البُهَمِ

تَخدي الرّكابُ بنَا بِيضاً مَشافِرُهَا … خُضراً فَرَاسِنُهَا في الرُّغلِ وَاليَنمِ

مَكْعُومَةً بسِياطِ القَوْمِ نَضْرِبُها … عن منبِتِ العشبِ نبغي منبتَ الكرَمِ

وَأينَ مَنْبِتُهُ مِنْ بَعدِ مَنْبِتِهِ … أبي شُجاعٍ قريعِ العُرْبِ وَالعَجَمِ

لا فَاتِكٌ آخَرٌ في مِصرَ نَقْصِدُهُ … وَلا لَهُ خَلَفٌ في النّاسِ كُلّهِمِ

مَنْ لا تُشابِهُهَ الأحيْاءُ في شِيَمٍ … أمسَى تُشابِهُهُ الأمواتُ في الرِّمَمِ

عَدِمْتُهُ وَكَأنّي سِرْتُ أطْلُبُهُ … فَمَا تَزِيدُني الدّنيا على العَدَمِ

ما زِلْتُ أُضْحِكُ إبْلي كُلّمَا نظرَتْ … إلى مَنِ اختَضَبَتْ أخفافُها بدَمِ

أُسيرُهَا بَينَ أصْنامٍ أُشَاهِدُهَا … وَلا أُشَاهِدُ فيها عِفّةَ الصّنَمِ

حتى رَجَعْتُ وَأقْلامي قَوَائِلُ لي … ألمَجْدُ للسّيفِ لَيسَ المَجدُ للقَلَمِ

أُكْتُبْ بِنَا أبَداً بَعدَ الكِتابِ بِهِ … فإنّمَا نحنُ للأسْيَافِ كالخَدَمِ

أسْمَعْتِني وَدَوَائي ما أشَرْتِ بِهِ … فإنْ غَفَلْتُ فَدائي قِلّةُ الفَهَمِ

مَنِ اقتَضَى بسِوَى الهِنديّ حاجَتَهُ … أجابَ كلَّ سُؤالٍ عَن هَلٍ بلَمِ

تَوَهّمَ القَوْمُ أنّ العَجزَ قَرّبَنَا … وَفي التّقَرّبِ ما يَدْعُو إلى التُّهَمِ

وَلمْ تَزَلْ قِلّةُ الإنصَافِ قاطِعَةً … بَين الرّجالِ وَلَوْ كانوا ذوي رَحِمِ

فَلا زِيارَةَ إلاّ أنْ تَزُورَهُمُ … أيدٍ نَشَأنَ مَعَ المَصْقُولَةِ الخُذُمِ

من كُلّ قاضِيَةٍ بالمَوْتِ شَفْرَتُهُ … مَا بَينَ مُنْتَقَمٍ مِنْهُ وَمُنْتَقِمِ

صُنّا قَوَائِمَهَا عَنهُمْ فَما وَقَعَتْ … مَوَاقِعَ اللّؤمِ في الأيْدي وَلا الكَزَمِ

هَوّنْ عَلى بَصَرٍ ما شَقّ مَنظَرُهُ … فإنّمَا يَقَظَاتُ العَينِ كالحُلُمِ

وَلا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فَتُشْمِتَهُ … شكوَى الجريحِ إلى الغِرْبانِ وَالرَّخَمِ

وَكُنْ عَلى حَذَرٍ للنّاسِ تَسْتُرُهُ … وَلا يَغُرَّكَ مِنهُمْ ثَغْرُ مُبتَسِمِ

غَاضَ الوَفَاءُ فَما تَلقاهُ في عِدَةٍ … وَأعوَزَ الصّدْقُ في الإخْبارِ وَالقَسَمِ

سُبحانَ خالِقِ نَفسي كيفَ لذّتُها … فيما النّفُوسُ تَراهُ غايَةَ الألَمِ

ألدّهْرُ يَعْجَبُ من حَمْلي نَوَائِبَهُ … وَصَبرِ نَفْسِي على أحْداثِهِ الحُطُمِ

وَقْتٌ يَضيعُ وَعُمرٌ لَيتَ مُدّتَهُ … في غَيرِ أُمّتِهِ مِنْ سالِفِ الأُمَمِ

أتَى الزّمَانَ بَنُوهُ في شَبيبَتِهِ … فَسَرّهُمْ وَأتَينَاهُ عَلى الهَرَمِ