جنّة الفراغ – أديب كمال الدين

من المؤكد أنّي أحببتك

لكنْ من المؤكدِ أيضاً

أني أتعالج الآن َمن مرضِ حبّك

بأقراص ِالنقاط

في مستشفى الحروف

أنا وأنتِ

كطائرٍ يعشقُ سلحفاة

ويوهمُ نفسه انّ السماء

هي المكان المناسب لعيشِ السلاحف.

غربتكِ أشدّ وطأةً من كفّ مفتوحةٍ للاستجداء.

عندكِ فقدتُ ريشَ روحي

وعندكِ فقدتُ عنقَ شبابي

وهكذا بحثتُ عن روحي

فتشاغلتِ بحمرةِ شفتيك

وبحثتُ عن شبابي

فتشاغلتِ بالبحثِ عن حقيبتكِ الملأى بالمواعيد.

من المؤلم أن أكتب عنكِ

أنتِ التي لا تساوين حرفاً مما أنفث

ونقطةً مما أمنح

وإشارة من إشاراتِ دمي الكبرى.

جلستكِ فتنة

وزجاجُ روحكِ محطّم حتّى النخاع.

أعتذرُ إليكِ بشدّة

لأنني امتدحتُ جمالك

وكان من حقّه الهجاء

وأعتذرُ إليكِ بشدّة

لأنني حاولتُ السباحة

في إيقاع قلبكِ المثقوب.

اشارتكِ ضائعة

والطريق إليكِ ملغومة بالألم.

حاولتُ أن أدلكِ على إشارةِ الكافِ الكبرى

لكنّ شيطانكِ كان قوياً

فحاول كسر ذراعي التي أشارتْ إلى الشمس.

هكذا أنا أبداً

أقع في غرامِ النساءِ اللاتي لا قلب لهن

ولا دم في قلوبهن

ولا باء في حائهن.

أنا الآن في حريتي

أرقصُ مع الحاء

وأغني مع الياء

وأرسمُ أرشقَ اللوحات مع الراء

ألفاً قوياً حياً متماسكاً

فلا تحاولي الاقتراب مني

ولو بتحيةٍ عابرة.

عن عجرفتك

كتبتُ كتاباً فصّلت فيه

كلّ غروركِ الصنمي

وكلّ أكاذيبكِ الوثنية

ووضعتُ له عنواناً

لا أتذكّره لشدّة عجرفته

لم أعد قتيلاً

ولم أعد قاتلاً

صرتُ أرى القافَ قاب قوسين أو أدنى

قاف قلبي الضائع الطيب البسيط

ككلمة (ماما) يقولها طفل يتكلم للتوّ.

وداعاً

يا إمبراطورتي المزيّفة

أنحني أمامكِ كصعلوك

وأرميكِ بالحجرِ كمتمرد

وأطلقُ عليكِ النار كإرهابي

حبّك أكذوبة

ونسيانكِ سعادة مَن لم يعرف السعادة مِن قبل.

لغتكِ ليست بلغتي

أنا المبتهل الكبير

أنا المتأمل الكبير

لغتكِ لغةُ الفانين والمؤقّتين والمهرّجين.

سقوطكِ من أعلى السلم

مناسبة حزينة لأمثالي الذين لا يعرفون

أنكِ لم تصعدي سُلّماً

أيّ سُلّم كان.

ابتهاجاً بموتك

قتلتُ نفسي

بدلاً من أن تبتهل

كلُ خلية من خلاياي لمرآك

صارتْ تهربُ من هذا اللقاء المتطرّف

كما تهرب ذاكرةُ المحكومِ بالإعدام

من تذكّرِ وقتِ الإعدام.

غربتكِ اشتدّتْ وتحّولتْ إلى عاصفة

طيّرتني.

أنا وأنتِ

مثل أعمى يقودُ مبصراً إلى جهنم.

في اللحظةِ التي قررتُ فيها

أن أعترف بحبّك

أطلقتِ عليّ النار.

البارحة مررتُ على الحروف جميعاً

طالبا ً يد المساعدة والعون

فلم يأبه أيّ حرف لي

حتّى ألفي تظاهر بالنوم

أخافُ عليكِ من البحر

وأخافُ عليكِ من السفنِ المثقوبة

وأخافُ عليكِ من مخالطةِ الغرقى.

حبّكِ زلزال يحاصرني كلّ حين

وحين أهرب منه إلى أرضٍ آمنة

يُقال لي: أيها الغريب… إنّ زلزالكَ كونيّ

فعلامَ الهرب؟

وعلامَ التعب؟

صارَ اللقاءُ بك

يشبه مشلولاً يريدُ أن يتسلّق نخلةً باسقة.

قُبْلة منك

تعيدني إلى عصرِ اكتشافِ الكتابة

حيث كلّ شيء في منتهى العذوبة

وفي غاية النوال.

يُقال: آخر الدواء الكيّ

وأقولُ: آخر الدواء الحروف

عجيب أمرك

أنتِ لا تبحرين إلاّ في البحار التي يبستْ

ومحا الجغرافيون اسمها من الخارطة.

عجيب أمري

أحببتكِ حين كان عليّ

أن أتبرّع بالحاءِ والباء.

عجيب أمري

أحببتكِ حين كنتُ أهمّ

بارتداءِ خرقةِ الصوفيّ

وعمامةِ الشهيد.

أمجادكِ امّحت

وزلزالكِ على العرش استوى.

من فراغكِ صنعتُ جبلاً

تسلّقته وبنيتُ في أعلاه

قصراً وعرشاً وملائكة طيبين.

من فراغكِ صنعتُ موعداً

حضرته وكان قربي نهرعظيم

وشمس كبرى

ولحن باسق

وقلب محطّم

مع كرسيّكِ الفارغ الجميل.

من فراغكِ صنعتُ أغنية

أذعتها للأمواتِ فابتهجوا ورقصوا حتّى الموت.

أسقطُ في الفراغ

وأصعدُ

أصعدُ

أصعدُ

فلا أجد إلاّ الفراغ يقبّل نفسه.

لامعنى لإحزاننا

لأنّ الموت هو الفرح الوحيد الذي ينتظرنا

كما تنتظرالشمسُ الأنهار

لتشرق فيها.

(السيدةُ تنتظرني عند الممرّات لتبوح لي بسرّ خطير)

هذا الحلم العجيب تحوّل عندي

إلى آلافِ القصائد وملايين الحروف

التي سقطتْ من ذاكرتي

فبكيتُ ومضيتُ إلى نفسي

فوجدتها قد ضاعتْ قبلي

منذ زمن سحيق.

أيها المغنّي

عذابي عظيم

وأغنيتكَ مليئة بالأسى،

ومع هذا فإنني أدندن معك

بجزءٍ من عذابي الذي وسعَ كلّ شيء.

آتوني بشمسٍ أخرى

لتشرق في الليل

لأنّ الظلام يؤذيني

متى تنطقين بسرّ الحبّ

أيتها الخرساء أبداً؟

قبل أن تعترفي بسرّك

أيّاً يكون هذا السرّ

وقبل أن أحترق تماماً

وأتحوّل إلى كومةٍ من رماد

سأحاول النسيان

ولذا سأجلس قبالة الفرات

وأبكي كأمّ أضاعتْ وحيدها

علّ الفرات يقومُ من رقدته الكبرى

ويعيدني إلى نفسي.

أيها الشعر.. يا أبي

انقذني من عذابي

لم يعد من ملجأ لي سواك

أرجوك يا أبي

إنني طفل ينطقُ بأول الحروف

وبالكاد يكملُ كلمة وحدة

فكيف يمكنني أن اشرح لك

صواعق حبّي وأفسّر لك

زلازل موتي؟

أيتها المرأة

يا تلّ الرمل المنهار

شكراً لغرورك

شكراً لصلفك

شكراً لضياعك ِالذي هبط عليّ من النافذة

فملأ يومي بالسخريةِ الحامضة

والضحكِ المرّ.

لا جدوى

البحرُ ازداد اتساعاً

وامتدّ حتّى أكل قلبي فبكيت.

أيها الشعر

تعال..

اركضْ..

أنقذني

من الطلقةِ الأخيرةِ القادمة باتجاه رأسي

……

الميّت

أيتها الإمبراطورة المزيّفة

شكراً لتعاستكِ التي أنقذتني

من مهالكِ نفسي

شكراً لموتكِ المبكّرالذي أنقذني

من شيخوخة صباي

ورعونة قلبي

وفجوري.

في حبّكِ أيتها المتجبّرة

أحببتُ التعسفَ والظلمَ والطغيان

البارحة

سقطتِ من عرشكِ الوهمي الذي أقمت

دعائمه بدمي وتمتماتي وحروفي المجنحّة

سقطتِ وتحّولتِ إلى امرأةٍ أكثر عادية

من أيّة امرأة أخرى.

أنتِ خيال متحرّك

دمكِ ميّت

وقلبكِ ميّت.

علمتني أن أضيع ذات اليمين وذات الشمال.

أنا حائر فيكِ يا مأساتي الجديدة

التي لا أعرف رقمها في سلسلة زلازلي

التي لا تكفّ عن المجيء السعيد.

الشاعرُ يهذي

مصاب بفقر الحبّ

مصاب بالتشظّي

وحبيبته تجلسُ طوال حياتها

أمام المرآة لتتعرّى وتكتحل.

سحقا ًلبخلِ مواعيدكِ الخرافيّ الذي جعلني

ألقي بكلّ أساطير الحبّ في الفرات

ثم ألقي بروحي خلفها.

سأسحرك

بعظامِ الكلمةِ وشياطينها

وفي اللحظة التي ستسلمين فيها لسحري

سأدهسكِ كما يدهسُ الجبلُ المنهارُ عابراً لاهياً.

من العجيب أن أستسلم لك

أنا الذي لم أستسلم من قبل

للذهب أو العاصفة أو الموت.

سقطتْ نونكِ في الشارع

فرأيتُ الأطفال يضحكون منها.

أنتِ لم تعدي أنت

لقد انتهيت

ونسيتكِ

فحمداً للكاف

وحمداً لأجدادي

وحمداً لي.

بمناسبة موتكِ وبعثي من الموت

أحتفلُ الليلة مع حروفي احتفالاً صاخباً

نشربُ فيه نخبَ خسائرنا وفواجعنا

ونتلذذُ بأكلِ زجاجِ روحنا المحطّم.

أيها الحبّ

اذهبْ إلى الجحيم

واتركني أرمم سقفَ رأسي المنهار.

غنّى الناي

فمرّ شبابي من ثقب الباب.

آه شبابي…

طير حلّق في الأعلى

حلّق حلّق حلّق حتّى الموت.

مالي اخترتكِ يا سيدةً من صوتٍ ومساحيق

ألكي أكمل سلسلة هزائم روحي؟

آه شبابي..

يا فراتي الميّت بين يدي أبي

يا أبي الميّت بين يدي فراتي

يا رأس أبي المحمول على ناصية الريح

وخيل الأجلاف السفلة.

آه شبابي..

موعدكَ الثاني فسدَ اللحظة

وموعدكَ الثالث فسدَ الآن

وموعدكَ الأول ميّت بالفطرة.

صرتُ أرى الأجلاف

وأتعرّفُ إلى عريهم المدوّي

وأصمدُ وأتمترس.

آه شبابي..

دمع.. دال

دمع.. ميم

دمع.. عين

دمع.. نون.

آه شبابي..

حبّ ولا معنى

معنى ولا حبّ

حاء بلا باء

باء بلا حاء

نون جاهلة وباء مذبوحة.

آه شبابي..

رأسي ابيضّ

كما ابيضّ الموت.

صرتُ لا أستطيع أن أسمّيكِ نوني

لكثرةِ المهرّجين

واشتدادِ الريح

وسعةِ النار.

سأسمّيكِ هلالي ونقطتي

فهذا أستر لي

أنا الذي أخافُ حبّكِ الفاضح.

سأسميّكِ صمتي

فهذا أستر لي

أنا خادمُ القاف.

منتصراً بك

أحملُ جثتي وجثتكِ في عربة الحبّ

وأحيي المحتفلين المصطفّين على ناصية الطرقات.

الموتُ خرافة

والحبُّ أسطورة

وأنا أؤمن بهذه الخرافة

وأتجلّى في تلك الأسطورة.

يا نقطة نوني

تركتِني أبكي أبجديتي المتناثرة

على ظلمةِ جسدي.

انتهت قصيدتي

ولم تجفّ دمعتي.

(حبيبتي)

كلمة أردت أن أقولها

فقطعتِ لساني بأنوثتكِ الجارحة.

قلتِ لي: إنكَ تبحث عن رمزٍ تكتبُ عنه

ونسيتِ انني حوّلتُ نقطةَ نونك

إلى إلياذة معاصرة.

الكتابةُ عنكِ نزيف

لا طبيب يستطيعُ إيقافه

لاساحر ولا مهرّج

لامفاجأة ولا نهاية

لا موت ولا زلزال.

مدينتي البعيدة

أرسلتْ إليّ تسأل عني

فدخل الثرثارون على الخط

وأفسدوا هيبةَ السؤال.

دمي أحُيطَ به

نسفه الحزن

وألقى الهمُّ القبضَ عليه بتهمةِ النسيان.

أيتها الأضحوكة

أنا لاعب السيرك المُهان

الليلُ مظلم

والفجرُ منتشر كإشاعة.

طفولتي المرّة

أفسدت لساني

فصارَ لا يعرفُ طعمَ السكّر ولا طعمَ الملح.

في الأربعين

في الشاطئ الأربعين

غرقتُ

وحملتُ جثتي حتّى باب عريكِ السافر.

موتي أسطورة

وولادتي زلزال.

لم أعدْ من نفسي بعد

فكيف أستطيع السفر إليك؟

بعد أن جننتُ بك

وقفتُ على بابِ نفسي أريد الدخول

فلم تسمحْ لي

وهكذا صرتُ أقضي الليل وحيداً

كلّ ليلة.

للمرّة الألف

أعتذرُ إلى نفسي

لأنني سمحتُ لقلبي أن يتذكّر نقطتكِ الضائعة

ويتأمّل في هلالكِ المزّيف

لكنّ نفسي تعلّمت القسوةَ منك

فرفضتْ اعتذاري للمرّة الألف.

أيتها الطيورالمعلّقة بسماءِ قلبي

أيتها الذكريات المصنوعة من الشمس

والهروبِ والبحثِ عن اللاشيء

في المدنِ ميتة الأجنحة.

يا أقلامي وأوراقي

يا حروفي وملابسي وأصابعي

انقذوني مما أنا فيه

أنا المسافر الذي سُرِقَ حلمه

وهو نائم في قطارِ الجنّةِ الذاهب

إلى جهنم

أنا الذي عرفتُ الحقيقة

قبل أن تبيع نقاطها في السوق الكبير

وعرفتُ الظنون

قبل أن تشتري نونها من أصباغِ المكياج

أنا الذي أعرفُ ما سيحدث لي ولكم يا أصدقائي

فلِمَ لا تعترفون بأخطائكم لي

وتكتفون بإيماءةِ الرأسِ الجميلة

حين أصطفي لكم النبوءات؟

في استديو الأكاذيب

جلست النونُ تهجوني بقلبها الميّت.

رحلتي يجب أن تنتهي إلى عبيرك

رحلتي يجب أن تنتهي إلى يقينكَ وحروفك

ولذا

أحبّك كأنني أراكَ يا سيدي

فخذْ بيدي

فالرحلةُ متعبة

والزمنُ حاسر الرأس يبكي.

دمي احترق

فحاولت إطفاءه برملِ الحروف

فازداد اشتعالاً.

في حبّكِ أيتها الجاحدة

بدأتُ أكتبُ سمفونيةَ الاعتذار العظمى لقلبي

لاختياري الفاسد.

دمي احترق

فصرتُ أحرقُ كلَّ شيء ألمسه

بحضوري وصفائي.

من العجيبِ أن أبحث عن معناي فيك

أنت التي لا معنى لك.

من العجيبِ أن أنتظر أمطارك

أنتِ التي اخترعتِ الصحراء الكبرى.

من العجيبِ أن أخطو معكِ خطوة واحدة

أنت التي ينبغي أن أفرّ منك

كما يفرّ السجين من سيارة السجن

الذاهبة إلى ساحة الإعدام.

هجاؤكِ لذة

ومديحكِ سأم.

هجاؤكِ عيد

ولقاؤكِ يشبه مركباً يغرقُ ويغرق

ولا أحد ينتبهُ لصيحاتِ الركّاب

ودموعهم