تذكرت ما بين العذيب وبارق – المتنبي

تَذَكّرْتُ ما بَينَ العُذَيبِ وَبَارِقِ … مَجَرَّ عَوَالينَا وَمَجْرَى السّوَابِقِ

وَصُحْبَةَ قَوْمٍ يَذبَحُونَ قَنيصَهُمْ … بفَضْلَةِ ما قد كَسّرُوا في المَفارِقِ

وَلَيْلاً تَوَسَّدْنَا الثَّوِيّةَ تَحْتَهُ … كأنّ ثَرَاهَا عَنْبَرٌ في المَرَافِقِ

بِلادٌ إذا زارَ الحِسانَ بغَيرِهَا … حَصَى تُرْبِهَا ثَقّبْنَهُ للمَخانِقِ

سَقَتْني بهَا القُطْرُبُّليَّ مَليحَةٌ … على كاذِبٍ منْ وَعدِها ضَوْءُ صَادقِ

سُهادٌ لأجفانٍ وَشَمْسٌ لِنَاظِرٍ … وَسُقْمٌ لأبدانٍ وَمِسْكٌ لِناشِقِ

وَأغْيَدُ يَهْوَى نَفْسَهُ كلُّ عاقِلٍ … عَفيفٍ وَيَهوَى جسمَهُ كلُّ فاسِقِ

أدِيبٌ إذا ما جَسّ أوْتَارَ مِزْهَرٍ … بلا كُلَّ سَمْعٍ عن سِواها بعائِقِ

يُحَدِّثُ عَمّا بَينَ عادٍ وَبَيْنَهُ … وَصُدْغاهُ في خَدّيْ غُلامٍ مُراهِقِ

وَمَا الحُسْنُ في وَجْهِ الفتى شَرَفاً لَهُ … إذا لم يكُنْ في فِعْلِهِ وَالخَلائِقِ

وَمَا بَلَدُ الإنْسانِ غَيرُ المُوافِقِ … وَلا أهْلُهُ الأدْنَوْنَ غَيرُ الأصادِقِ

وَجائِزَةٌ دَعْوَى المَحَبّةِ وَالهَوَى … وَإنْ كانَ لا يخفَى كَلامُ المُنافِقِ

برَأيِ مَنِ انْقادَتْ عُقيلٌ إلى الرّدَى … وَإشماتِ مَخلُوقٍ وَإسخاطِ خالِقِ

أرَادوا عَلِيّاً بالذي يُعجِزُ الوَرَى … وَيُوسِعُ قَتلَ الجحفَلِ المُتَضايِقِ

فَمَا بَسَطُوا كَفّاً إلى غَيرِ قَاطِعٍ … وَلا حَمَلُوا رَأساً إلى غَيرِ فَالِقِ

لَقَد أقدَمُوا لَوْ صادَفُوا غيرَ آخِذٍ … وَقد هرَبوا لوْ صَادَفوا غيرَ لاحِقِ

وَلَمَّا كَسَا كَعْباً ثِياباً طَغَوْا بِهَا … رَمَى كلَّ ثَوْبٍ مِنْ سِنانٍ بخارِقِ

وَلمّا سَقَى الغَيْثَ الذي كَفَرُوا بِهِ … سَقَى غَيرَهُ في غَيرِ تلكَ البَوَارِقِ

وَما يُوجعُ الحِرْمانُ من كَفّ حارِمٍ … كمَا يُوجعُ الحِرْمانُ من كَفّ رازِقِ

أتَاهُمْ بهَا حَشْوَ العَجَاجَةِ وَالقَنَا … سَنَابِكُهَا تحشُو بُطُونَ الحَمالِقِ

عَوَابِسَ حَلّى يَابِسُ الماءِ حُزْمَها … فَهُنّ على أوْساطِها كالمَنَاطِقِ

فَلَيْتَ أبَا الهَيْجا يرَى خَلْفَ تَدْمُرٍ … طِوَالَ العَوالي في طِوال السَّمالِقِ

وَسَوْقَ عَليٍّ مِنْ مَعَدٍّ وَغَيرِها … قَبَائِلَ لا تُعْطي القُفِيَّ لِسَائِقِ

قُشَيرٌ وَبَلْعَجْلانِ فيها خَفِيّةٌ … كَرَاءَينِ في ألْفاظِ ألثَغَ نَاطِقِ

تُخَلّيهِمِ النّسْوانُ غَيرَ فَوَارِكٍ … وَهُمْ خَلّوُا النّسْوانَ غَيرَ طَوَالِقِ

يُفَرِّقُ ما بَينَ الكُماةِ وَبَيْنَهَا … بطَعْنٍ يُسَلّي حَرُّهُ كلَّ عاشِقِ

أتَى الظُّعْنَ حتى ما تَطيرُ رَشاشَةٌ … منَ الخَيلِ إلاّ في نُحُورِ العَوَاتِقِ

بكُلّ فَلاةٍ تُنكِرُ الإنْسَ أرْضُهَا … ظعائنُ حُمْرُ الحَليِ حمرُ الأيانِقِ

وَمَلْمُومَةٌ سَيْفِيّةٌ رَبَعِيّةٌ … تَصيحُ الحَصَى فيها صِياحَ اللّقالِقِ

بَعيدَةُ أطْرَافِ القَنا مِنْ أُصُولِهِ … قَريبَةُ بَينَ البَيضِ غُبرُ اليَلامِقِ

نَهَاهَا وَأغْنَاهَا عَنِ النّهْبِ جُودُه … فَمَا تَبْتَغي إلاّ حُماةَ الحَقائِقِ

تَوَهّمَهَا الأعرابُ سَوْرَةَ مُترَفٍ … تُذَكّرُهُ البَيْداءُ ظِلَّ السُّرادِقِ

فَذَكّرْتَهُمْ بالمَاءِ ساعَةَ غَبّرَتْ … سَماوَةُ كَلبٍ في أُنوفِ الحَزَائِقِ

وكانُوا يَرُوعونَ المُلُوكَ بأنْ بدَوْا … وَأنْ نَبَتَتْ في المَاءِ نَبْتَ الغَلافِقِ

فهاجُوكَ أهْدَى في الفَلا من نُجُومه … وَأبْدَى بُيُوتاً من أداحي النّقانِقِ

وَأصْبَرَ عَن أمْوَاهِهِ من ضِبابِهِ … وَآلَفَ منْها مُقْلَةً للوَدائِقِ

وَكانَ هَديراً مِنْ فُحُولٍ تَرَكتَها … مُهَلَّبَةَ الأذنابِ خُرْسَ الشّقاشِقِ

فَما حَرَمُوا بالرّكضِ خَيلَكَ رَاحةً … وَلَكِنْ كَفَاهَا البَرُّ قَطعَ الشّوَاهقِ

وَلا شَغَلُوا صُمّ القَنَا بِقُلُوبِهِم … عنِ الرَّكْزِ لكِنْ عن قلوبِ الدماسقِ

ألمْ يحذَروا مَسْخَ الذي يَمسَخُ العِدى … ويجعَلُ أيدي الأُسدِ أيدي الخرانِقِ

وَقد عايَنُوه في سِواهُمْ وَرُبّمَا … أرَى مارِقاً في الحَرْبِ مصرَعَ مارِقِ

تَعَوّدَ أنْ لا تَقْضَمَ الحَبَّ خَيْلُهُ … إذا الهَامُ لم تَرْفَعْ جُنُوبَ العَلائِقِ

وَلا تَرِدَ الغُدْرانَ إلاّ وَمَاؤهَا … منَ الدّمِ كالرّيحَانِ فَوْقَ الشّقائقِ

لَوَفْدُ نُمَيرٍ كانَ أرْشَدَ منْهُمُ … وقد طَرَدوا الأظْعانَ طَرْدَ الوَسائقِ

أعَدّوا رِماحاً مِنْ خُضُوعٍ فطاعَنُوا … بهَا الجَيشَ حتى رَدّ غَرْبَ الفَيالِقِ

فَلَمْ أرَ أرْمَى منهُ غَيرَ مُخاتِلٍ … وَأسرَى إلى الأعداءِ غَيرَ مُسارِقِ

تُصِيبُ المَجانيقُ العِظامُ بكَفّهِ … دَقائِقَ قد أعْيَتْ قِسِيَّ البَنَادِقِ