بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل – المتنبي

بنا منكَ فوْقَ الرّملِ ما بك في الرّملِ … وهذا الذي يُضْني كذاكَ الذي يُبلي

كأنّكَ أبصرْتَ الذي بي وخِفْتَهُ … إذا عشتَ فاخترتَ الحِمامَ على الثُّكلِ

تركتَ خُدودَ الغانِياتِ وفَوْقَها … دموعٌ تُذيبُ الحسن في الأعينِ النُّجلِ

تَبُلّ الثّرَى سوداً منَ المِسكِ وحدَه … وقد قطرَتْ حُمراً على الشّعَرِ الجَثلِ

فإنْ تَكُ في قَبرٍ فإنّكَ في الحَشَا … وإنْ تَكُ طفلاً فالأسَى ليسَ بالطفلِ

ومِثْلُكَ لا يُبكَى على قَدْرِ سِنّهِ … ولكِنْ على قدرِ المخيلَةِ والأصْلِ

ألَستَ منَ القَوْمِ الأُلى مِنْ رِماحِهمْ … نَداهُم ومِن قتلاهُمُ مُهجةُ البخلِ

بمَوْلودِهِمْ صَمْتُ اللّسانِ كغَيرِهِ … ولكِنّ في أعْطافِهِ مَنطِقَ الفضْلِ

تُسَلّيهِمِ عَلْياؤهُمْ عَن مُصابِهِمْ … ويَشغَلُهُمْ كسبُ الثّناءِ عن الشغلِ

أقَلُّ بَلاءً بالرّزايَا مِنَ القَنَا … وأقْدَمُ بَينَ الجَحْفَلينِ من النَّبْلِ

عَزاءَكَ سَيفَ الدّولَةِ المُقْتَدَى به … فإنّكَ نَصْلٌ والشّدائدُ للنّصلِ

مُقيمٌ مِنَ الهَيجاءِ في كلّ مَنزِلٍ … كأنّكَ من كلّ الصّوارِمِ في أهلِ

ولم أرَ أعصَى منكَ للحُزْنِ عَبرَةً … وأثْبَتَ عَقْلاً والقُلُوبُ بلا عَقلِ

تَخُونُ المَنايا عَهْدَهُ في سَليلِهِ … وتَنصُرُهُ بَينَ الفَوارِسِ والرَّجْلِ

ويَبقَى على مَرّ الحَوادِثِ صَبرُهُ … ويَبدو كمَا يَبدو الفِرِنْدُ على الصّقلِ

ومَنْ كانَ ذا نَفسٍ كنَفسِكَ حرّةٍ … فَفيهِ لها مُغْنٍ وفيها لَهُ مُسلِ

وما الموْتُ إلاّ سارِقٌ دَقّ شَخْصُهُ … يَصولُ بلا كَفٍّ ويَسعى بلا رِجْلِ

يَرُدُّ أبو الشّبلِ الخَميسَ عنِ ابنِهِ … ويُسْلِمُهُ عِندَ الوِلادَةِ للنّملِ

بنَفسي وَليدٌ عادَ مِن بَعدِ حَمْلِهِ … إلى بَطنِ أُمٍّ لا تُطرقُ بالحَمْلِ

بَدَا ولَهُ وَعْدُ السّحابَةِ بالرِّوَى … وصَدَّ وفينا غُلّةُ البَلَدِ المَحْلِ

وقد مَدّتِ الخَيلُ العِتاقُ عُيونَها … إلى وَقتِ تَبديلِ الرّكابِ من النّعلِ

ورِيعَ لَهُ جَيشُ العَدوّ وما مشَى … وجاشتْ له الحرْبُ الضَّروسُ وما تغلي

أيَفْطِمُهُ التَّوْرابُ قَبلَ فِطامِهِ … ويأكُلُهُ قبلَ البُلُوغِ إلى الأكلِ

وقبلَ يرَى من جودِهِ ما رأيتَهُ … ويَسمَعُ فيهِ ما سمعتَ من العذلِ

ويَلقَى كمَا تَلقَى من السّلمِ والوَغَى … ويُمسِي كمَا تُمسِي مَليكاً بلا مِثلِ

تُوَلّيهِ أوساطَ البِلادِ رِماحُهُ … وتَمْنَعُهُ أطرافُهُنّ منَ العَزْلِ

أنَبْكي لمَوتانا على غَيرِ رَغْبَةٍ … تَفُوتُ مِنَ الدّنْيا ولا مَوْهبٍ جَزْلِ

إذا ما تأمّلتَ الزّمانَ وصَرْفَهُ … تيَقّنْتَ أنّ الموْتَ ضرْبٌ من القتلِ

وما الدّهرُ أهلٌ أنْ تُؤمَّلَ عِندَهُ … حَياةٌ وأنْ يُشتاقَ فيهِ إلى النّسلِ