أهواء – بدر شاكر السياب

أطلي على طرفي الدامع … خيالا من الكوكب الساطع

ظلا من الأغصن الحالمات … على ضفة الجدول الوادع

وطوفي أناشيد في خاطري … يناغين من حبّي الضائع

يفجّرن من قلبي المستفيض … ويقطرن في قلبي السامع

لعينيك للكوكبين اللذين … يصبان في ناظريّ الضياء

لنبعين، كالدهر، لا ينضبان … ولا يسقيان الحيارى الظماء

لعينيك ينثال بالأغنيات … فؤاد أطال انثيال الدماء

يودّ، إذا ما دعاك اللسان … على البعد لو ذاب فيه النداء

يطول انتظاري، لعلي أراك … لعلي، ألاقيك بين البشر

سألقاك. لا بد لي أن أراك … وإن كان بالناظر المحتضر

فديت التي صوّرتها مناي … وظل الكرى في هجير السهر

أطلي على من حباك الحياة … فأصبحت حسناء ملء النظر

اطلّي فتاة هواي والخيال … على ناظر الرؤى عالق

بعشرين من ريقات السنين … عبرن المدرات في خافقي

بعشرين كلاّ وهبت الربيع … وما فيه من عمري العاشق

فما ظل إلا الربيع صغير … أخبّيه للموعد الرائق

سأروي على مسمعيك الغداة … أحاديث سمّيتهن الهوى

وأنباء قلب غريق السراب … شقيّ التداني ، كئيب النوى

أصيخي .. فهذي فتاة الحقول … وهذا غرام هناك انطوى

أتدرين عن ربة الراعيات ؟ … عن الريف ؟ عما يكون الجوى

هو الريف هل تبصرين النخيل ؟ … وهذي أغانيه هل تسمعين

وذاك الفتى شاعر في صباه … وتلك التي علمته الحنين

هي الفنّ من نبعت المستطاب … هي الحبّ من مستقاه الحزين

رآها تغني وراء القطيع … كـ( بنلوب ) تستمهل العاشقين

فما كان غير التقاء الفؤادين … في خفقة منهما عاتية

وما كان غير افترار الشفاة … بما يشبه البسمة الحانية

وكان الهوى ، ثم كان اللقاء … لقاء الحبيبين في ناحية

فما قال : أهواك ، حتى ترامى … عياء على ضفة الساقية

وأوفى على العاشقين الشتاء … ويوم دجا في ضحاه السحاب

خلا الغاب ما فيه إلا النّخيل … وإلا العصافير فهو ارتقاب

وبين الحبيبين في جانبيه … من السّعف في كل ممشى حجاب

فما كان إلا وميض أضاء … ذرى النخل وانحل غيم وذاب

ويا سدرة الغاب كيف استجارا … بأفنانك الناطفات المياه

رآها وقد بلّ من ثوبها … حيا زخ فاستقبلتها يداه

على الجدع يستدفئان الصدور … على موعد كل آه بآه

سلي الجدع كيف التصاق الصدور … بهزّاتها، وابتعاد الشفاة ؟

أشاهدت يا غاب رقص الضياء … على قطرة بين أهدابها ؟

ترى أهي تبكي بدمع السماء … أساها وأحزان أترابها ؟

ولكنّها كل نور الحقول … ودفء الشذى بين أعشابها

وأفراح كلّ العصافير فيها … وكلّ الفراشات في غابها

وذاك الخصام الذي لو يفدّي … لفديت ساعته بالوئام

أفدّيه من أجل يوم ترفّ … يد فيه أو لفتة بالسلام

ومن أجل عينين لا تستطيعان … ان تنظرا دون ظل ابتسام

تذوب له قسوة في الأسارير … كالصحو ينحل عنه الغمام

خصاماً ولما نعلّ الكؤوس ؟ … أحطّمتها قبل أن نسكرا ؟

خصاماً ، وما زال بعض الربيع … نديّاً على الصيف مخضوضرا ؟

خصاماً ؟ فهل تمنعين العيون … إذا لألأ النّور أن تنظرا؟

وهل توقفين انعكاس الخيال … من النهر، أن يملك المعبرا ؟

أغاني شبابتي تستبيك … وتدنيك مني، ففيم الجفاء ؟

كأن قوى ساحر تستبدّ … بأقدامك البيض، عند المساء

ويفضي بك الدّرب حيث استدار، … إلى موعدي بين ظلّ وماء

على الشطّ، بين ارتجاف القلوع … وهمس النخيل، وصمت السماء

وحجبت خدّيك عن ناظري … بكفيك حينا وبالمروحات

سأشدو وأشدو فما تصنعين … اذا احمر خدّاك للأغنيات ؟

وأرخيت كفيك مبهورتين … وأصغيت، واخضل حتى الموات

إلى أن يموت الشعاع الأخير … على الشرق، والحب، والأمنيات

وهيهات، إن الهوى لن يموت … ولكنّ بعض الهوى يأفل

كما تأفل الأنجم الساهرات … كما يغرب الناظر المسبل،

كما تستجمّ البحار الفساح … ملّيا، كما يرقد الجدول

كنوم اللظى، كانطواء الجناح … كما يصمت الناي والشمأل

أعام مضى والهوى ما يزال … كما كان، لا يعتريه الفتور

أهذا هو الصيف يوفي علينا … فنلقاه ثانية، كالزهور

ولكنهمن زهور الخلود … فلا أظمأت ريّهنّ الحرور

ولا نال من لونهّن الشتاء … ولا استنزفت عطرهن الدهور

أغانيّ ، والغاب قفر الوكون … حبيس النسائم تحت الدوالي

ترى ماؤه، لاتّقاد الهجير … حريقا بما فوقه من ظلال

وفوق التعاشيب، حيث الغصون … ينؤن بأفيائهن الثقال

لها مضجع هدهدته العطور … أأبصرت كيف اضطجاع الجمال؟

أأمسيت استحضر الذكريات … وما كان بالأمس كل الحياة؟

أضاعت حياتي ؟ أغاب الغرام … أماتت على الأغنيات الشفاة؟

أنمسي، ومازال غاب النخيل … خضيلا وما زال فيه الرعاة،

حديثا على موقد لسامرين : … أحبّا، وخابا فوا حسرتاه؟

أناديك لو تسمعين النداء … وأدعوك أدعوك يا للجنون

إذا رن في مسمعيك الغداة … من المهد صوت الرضيع الحنون

ونادى بك الزوّج أن ترضعيه … ونادى صدى أخفتته السنون

فما نفعها صرخة من لهيب … أدوّي بها ؟ من عساني أكون؟

أعفّرت من كبرياء النداء؟ … وأرجعت آمادي القهقرى؟

نسيت التي صورتها مناي … وناديت أنثى ككل الورى ؟

وأعرضت عن مسمع في السماء … إلى مسمع في تراب القرى

أتصغي فتاة الهوى والخيال … وأدعو فتاة الهوى والثرى؟

وودعت سجواء بين الحقول … ودنيا عن الشر في معزل

وخلفت في كل ركن خصيل … من الريف ذكرى هوى أول

قصاصات أوراقي الهامسات … بشعري على ضفة الجدول

وجذعا كتبت اسمها الحلو فيه … ونايا يغني مع الشمأل

فمن هذه المسترق القلوب … صبى ملؤها روح الطافرة

أما كنت ودعت تلك العيون … الظليلات والخصلة النافرة؟

كأني ترشفت قبل الغداة … سنى هذه النظرة الآسرة

أما كان في الريف شيء كهذا ؟ … اما تشبة الربة الغابرة؟

مشى العمر ما بيننا فاصلا … فمن لي بأن أسبق الموعد ؟

ولكنه الحبّ منه الزمان … ثوان ومما احتواه المدى

أراها فانفض عنها السنين … كما تنفض الريح برد الندى

فتغدو وعمري أخو عمرها … ويستوقف المولد المولدا

وهل تسمع الشعر إن قلته … وفي مسمعيها ضجيج السنين

أطلت على السبع من قبل عشر … ين عاما وما كنّ إلا جنين ؟

وأمسى ولم تدر أنت الغرام … هواها حديث الورى أجمعين

لقد نبّأوها بهذا الهوى … فقالت : وما أكثر العاشقين ؟

أمن قلبه انثال هذا النشيد … إليها، إلى الذئبة الضارية ؟

ولو لم يكن فيه طعم الدماء … ما استشعرت رنة القافية

وما زال تسبيه غمّازتان … تبوحان بالبسمة الخافية

وما زالتا تذكران الخيال … بما كان في الأعصر الخالية

وبالحب والغادة المستبد … صباها به ، يلعبان الورق

وكيف استكان الإله الصغير … فألقى سهام الهوى والحنق

رهان، رمى فيه غمّازتيه … وورد الخدود، ونور الحدق

لك الله ، كيف اقتحمت القرون … ولم يخب في وجنتيك الألق ؟

كأن ابتسامتها والربيع … شقيقتان ، لولا ذبول الزهر

أآذار ينثر تلك الورود … على ثغرها ؟ أم شعاع القمر ؟

ففي ثغرها افترّ كل الزمان … وما عمر آذار إلا شهر

وبالروح فديت تلك الشفاة … وإن أذكرتني بكاس القدر

أطلي على طرفي الدامع … خيالا من الكوكب الساطع

وظلا من الأغصن الحالمات … على ضفة الجدول الوادع

وطوفي أناشيد في خاطري … يناغين من حبي الضائع

يفجرن من قلبي المستفيض … ويقطرن في قلبي السامع