أمن ازديارك في الدجى الرقباء – المتنبي

أمِنَ ازْدِيارَكِ في الدُّجى الرُّقَبَاءُ … إذْ حَيثُ كنتِ مِنَ الظّلامِ ضِياءُ

قَلَقُ المَليحَةِ وِهْيَ مِسْكٌ هَتكُها … ومَسيرُها في اللّيلِ وهيَ ذُكاءُ

أسَفي على أسَفي الذي دَلّهْتِني … عَنْ عِلْمِهِ فَبِهِ عَليّ خَفَاءُ

وَشَكِيّتي فَقْدُ السّقامِ لأنّهُ … قَدْ كانَ لمّا كانَ لي أعضاءُ

مَثّلْتِ عَيْنَكِ في حَشايَ جِراحَةً … فتَشابَها كِلْتاهُما نَجْلاءُ

نَفَذَتْ عَلَيّ السّابِرِيَّ ورُبّما … تَنْدَقّ فيهِ الصَّعدَةُ السّمْراءُ

أنا صَخْرَةُ الوادي إذا ما زُوحمَتْ … وإذا نَطَقْتُ فإنّني الجَوْزاءُ

وإذا خَفِيتُ على الغَبيّ فَعَاذِرٌ … أنْ لا تَراني مُقْلَةٌ عَمْيَاءُ

شِيَمُ اللّيالي أنْ تُشكِّكَ ناقَتي … صَدْري بها أفضَى أمِ البَيداءُ

فَتَبيتُ تُسْئِدُ مُسْئِداً في نَيّها … إسْآدَها في المَهْمَهِ الإنْضاءُ

بَيْني وبَينَ أبي عليٍّ مِثْلُهُ … شُمُّ الجِبالِ ومِثْلُهنّ رَجاءُ

وعِقابُ لُبنانٍ وكيفَ بقَطْعِها … وهُوَ الشّتاءُ وصَيفُهُنّ شِتاءُ

لَبَسَ الثُّلُوجُ بها عَليّ مَسَالِكي … فَكَأنّها بِبيَاضِها سَوْداءُ

وكَذا الكَريمُ إذا أقامَ ببَلْدَةٍ … سَالَ النُّضارُ بها وقامَ الماءُ

جَمَدَ القِطارُ ولَوْ رَأتْهُ كمَا تَرَى … بُهِتَتْ فَلَمْ تَتَبَجّسِ الأنْواءُ

في خَطّهِ من كلّ قَلبٍ شَهْوَةٌ … حتى كأنّ مِدادَهُ الأهْواءُ

ولكُلّ عَيْنٍ قُرّةٌ في قُرْبِهِ … حتى كأنّ مَغيبَهُ الأقْذاءُ

مَنْ يَهتَدي في الفِعْلِ ما لا تَهْتَدي … في القَوْلِ حتى يَفعَلَ الشّعراءُ

في كلّ يَوْمٍ للقَوافي جَوْلَةٌ … في قَلْبِهِ ولأُذْنِهِ إصْغَاءُ

وإغارَةٌ في ما احْتَواهُ كأنّمَا … في كُلّ بَيْتٍ فَيْلَقٌ شَهْبَاءُ

مَنْ يَظلِمُ اللّؤماءَ في تَكليفِهِمْ … أنْ يُصْبِحُوا وَهُمُ لَهُ أكْفاءُ

ونَذيمُهُمْ وبهِمْ عَرَفْنَا فَضْلَهُ … وبِضِدّها تَتَبَيّنُ الأشْياءُ

مَنْ نَفْعُهُ في أنْ يُهاجَ وضَرُّهُ … في تَرْكِهِ لَوْ تَفْطَنُ الأعداءُ

فالسّلمُ يَكسِرُ من جَناحَيْ مالهِ … بنَوالِهِ ما تَجْبُرُ الهَيْجاءُ

يُعطي فتُعطَى من لُهَى يدِهِ اللُّهَى … وتُرَى بِرُؤيَةِ رَأيِهِ الآراءُ

مُتَفَرّقُ الطّعْمَينِ مُجْتَمعُ القُوَى … فكأنّهُ السّرّاءُ والضّرّاءُ

وكأنّهُ ما لا تَشاءُ عُداتُهُ … مُتَمَثّلاً لوُفُودِهِ ما شَاؤوا

يا أيّهَا المُجدَى علَيْهِ رُوحُهُ … إذْ لَيسَ يأتيهِ لها اسْتِجداءُ

إحْمَدْ عُفاتَكَ لا فُجِعْتَ بفَقدِهم … فَلَتَرْكُ ما لم يأخُذوا إعْطاءُ

لا تَكْثُرُ الأمواتُ كَثرَةَ قِلّةٍ … إلاّ إذا شَقِيَتْ بكَ الأحْياءُ

والقَلْبُ لا يَنْشَقّ عَمّا تَحْتَهُ … حتى تَحِلّ بهِ لَكَ الشّحْناءُ

لمْ تُسْمَ يا هَرُونُ إلاّ بَعدَمَا اقْـ … ـتَرَعَتْ ونازَعتِ اسمَكَ الأسماءُ

فغَدَوْتَ واسمُكَ فيكَ غيرُ مُشارِكٍ … والنّاسُ في ما في يَدَيْكَ سَواءُ

لَعَمَمْتَ حتى المُدْنُ منكَ مِلاءُ … ولَفُتَّ حتى ذا الثّناءُ لَفَاءُ

ولجُدْتَ حتى كِدْتَ تَبخَلُ حائِلاً … للمُنْتَهَى ومنَ السّرورِ بُكاءُ

أبْدَأتَ شَيئاً ليسَ يُعرَفُ بَدْؤهُ … وأعَدْتَ حتى أُنْكِرَ الإبْداءُ

فالفَخْرُ عَن تَقصِيرِهِ بكَ ناكِبٌ … والمَجْدُ مِنْ أنْ يُسْتَزادَ بَراءُ

فإذا سُئِلْتَ فَلا لأنّكَ مُحوِجٌ … وإذا كُتِمتَ وشَتْ بكَ الآلاءُ

وإذا مُدِحتَ فلا لتَكسِبَ رِفْعَةً … للشّاكِرينَ على الإلهِ ثَنَاءُ

وإذا مُطِرْتَ فَلا لأنّكَ مُجْدِبٌ … يُسْقَى الخَصِيبُ ويُمْطَرُ الدّأمَاءُ

لم تَحْكِ نائِلَكَ السّحابُ وإنّما … حُمّتْ بهِ فَصَبيبُها الرُّحَضاءُ

لم تَلْقَ هَذا الوَجْهَ شَمسُ نَهارِنَا … إلاّ بوَجْهٍ لَيسَ فيهِ حَيَاءُ

فَبِأيّما قَدَمٍ سَعَيْتَ إلى العُلَى … أُدُمُ الهِلالِ لأخمَصَيكَ حِذاءُ

ولَكَ الزّمانُ مِنَ الزّمانِ وِقايَةٌ … ولَكَ الحِمامُ مِنَ الحِمامِ فِداءُ

لوْ لم تكنْ من ذا الوَرَى اللّذْ منك هُوْ … عَقِمَتْ بمَوْلِدِ نَسْلِها حَوّاءُ